لم تمض سوى ايام على قرار مجلس الوزراء العراقي القاضي بتحويل بعض الاقضية الى محافظات ، حتى انتشرت الدعوات كالنار في الهشيم لتعم ارجاء البلاد من اقصاها الى اقصاها ، كل الاقضية التي تظن انها كبيرة سكانياً او جغرافياً تطالب بالتحول الى محافظة ، تدفعها رغبات مناطقية وطائفية وعشائرية وحزبية وغيرها من الرغبات لأخذ استحقاق اكبر من مقاسها واكبر من قدراتها .
كل شيء في البلاد يجري تسيسه على نحو سريع وتدس الاحزاب السياسية انفها فيه، للكسب والتربح ، لأن اغلب الاحزاب العاملة على الساحة لا هم ولا شغل لها سوى الربح ، انها في "بازار" مفتوح كل شيء قابل للبيع والمساومة ، المهم هو الربح، حتى وحدة البلاد واستقرارها .
وهذا ما يجعلنا امام حيرة من امرنا ، فكل ازمة تمر بها البلد يكون مصدرها الحكومة ، انها معمل لتفريخ وتفقيس الازمات ، ففيما تنشغل البلاد بأزمة الارهاب والمواجهات الدامية مع التنظيمات التكفيرية ، تنبري الحكومة لتفتح ملف خطير كهذا في توقيت اخطر كالذي نحن فيه ، في ظل غياب التوافق السياسي والاجتماعي ، وانقسام حاد تشهده الساحة نتيجة للشد والجذب الاقليمي الذي تغذيه الصراعات المفجعة في سوريا.
قبل اشهر من مرضه الاخير اثار الرئيس المُغيب جلال طالباني جدلاً واسعاً حول ارسالهِ لمشروع قرار يتضمن اعادة رسم الحدود الادارية بين المحافظات العراقية وارجاعها الى العام 1967 وهو ما أثار حينها لغطاً وشحناً ورود افعال مؤيدة ورافضة كالعادة في الساحة العراقية ، طوت الايام مشروع طالباني او على الاقل تم تجميده لانشغالنا بازمة اخرى غيرها انذاك ، الى ان اعادت الحكومة بقرارها الاخير جدل التقسيم والتفكيك والتشظية الذي يراد منه رسم معالم ادارية وجغرافية جديدة للبلاد المنقسمة على ذاتها . طبعاً النقاش في بلد يدعي انه "ديمقراطي " ينبغي ان يكون واضحاً لا لبس فيه ولا تظليل حتى يتنسى لكل طرف تحديد رؤيته للملفات السياسية التي يراد التوصل فيها الى صيغ مشتركة وحدود تفاهمات معقولة للتأسيس بعد الانتقال من الدكتاتورية الى التعددية السياسية ، ولكن الذي يحصل ان هذه القضايا تطرح دون مقدمات ودون نقاش سياسي يمهد الارض لها ، مما يجعل منها ازمات ، لا مقدمات لحل ازمات متراكمة ، وهذا ما حصل في ملف المحافظات واستحداثها .
في ذي قار التي هي جزء من العراق لاقت خطوة الاستحداث تشجيعاً وحركت غريزة نائمة في قلوب البعض ممن يتمنون التربع على عروش المحافظات الجديدة ، بعد ان يتم فصل الاقضية وتحويلها الى محافظات ! ، وسرعان ما اعلنت السلطات المحلية في ذي قار عن تلقيها ثلاث طلبات من ادارات اقضية تطالب بالتحول الى محافظات ، وهي الرفاعي والشطرة وسوق الشيوخ ، وانها بصدد تحويلها الى الجهات ذات العلاقة ، وهذا واجبها قانوناً .
ولكن الا يحق لمراقب مثلي ان يتساءل على ماذا استند السادة المطالبين بتحويل اقضيتهم الى محافظات .؟، هل اجري استفتاء شعبي هناك مثلاً .؟، هل توفرت البنية الادارية والقانونية والفنية اللازمة للاستقلال بمحافظة .؟ ، ام انها مجرد رغبة في الحصول على نصيب من كل شيء كما يجري الان في البلاد ، فكل مبادرة وكل ملف يجري تعميمه لدوافع سياسية ، الا يمكننا القيام مثلاً بالتفكير جدياً بحال المواطن الذي سيصطدم بمزيد من التعقيد ومزيد من الضياع في ظل ترهل اداري سيصيب جهاز الدولة ، الا يمكننا قراءة ما يمكن ان تخلفه خطوات غير مدروسة وانفعالية كهذه على واقع البلاد ، هل يمكن محاسبة ادارة هذه الاقضية عنا ما يناله المواطن هناك من اهمال ونقص خدمات وسوء ادارة في ظل صلاحيات جيدة واموال معقولة تخصص سنوياً لها، دون ان يجد المواطن ما يعادلها على الارض فكيف سيكون حاله في ظل تحول سريع الى محافظات قليلة الخبرة وضعيفة القرابة والاداء ، اعتقد ان موضوع كهذا يجب ان يجري وفق قياسات ودراسات واسس علمية مبنية على قراءة الواقع هناك ، لا ان يجري فيها الاستنساخ ، لتكون النتيجة المزيد من المحافظات الفاشلة .
مقالات اخرى للكاتب