يتوهم الكثيرون بأن داعش يجذب اتباعه من خلال أفكار جديدة لها جاذبيه وسحر خاص من خلال تفسيره المتشدد للنصوص الدينية. على العكس, لم يأت داعش بالجديد, فكل مايمتلكه هي أفكار تملئ بطون الكتب القديمة من سيرة وتاريخ وفقه وتفاسير وغيرها وهي موجودة في تراث كل الطوائف الإسلامية, لكن مايميز داعش هو أستخدامه للأسلوب السردي بتوضيف القصة والحكاية في عملية تصدير أفكاره وهنا يكمن سر قوته. كل مايمتلكه داعش موجود مثل العناصر الكيميائية المتوفرة في الطبيعة فما ان تتوفر الضروف الموضوعية حتى تتحول إلى مركب كيميائي خطير قابل للأنفجار. فظهور داعش ليس بسبب أفكاره بل متعلق بالضروف الموضوعية من فقر وجهل وتهميش وإرادات سياسية عالمية وإقليمية تقف خلفها مصالح اقتصادية وسياسية.
لابد من الإشارة بأن الإنسان بطبيعته لايقتنع كثيرا ً بالأفكار المجردة التي تبتعد عن الواقع بل تجذبه أكثر تلك الأفكار التي لها تطبيقات عملية وواقع ملموس وهذا بالضبط ماتفعله الأيدلوجيات من خلال أخلاص منظريها وتطبيقهم لما يؤمنون به لتتحول تلك الأفكار لواقع ملموس مرتبط بحكاية معينة. القصة والسرد مهمتان في جذب الناس لتبني أفكار معينة بل مهمة في بناء الهوية الذاتية والاجتماعية بما تحمل تلك السرديات من عناصر ثقافية تتعلق بطريقة التفكير والعاطفة وأسلوب الحياة المتبع. القصة والسرد مهمان حتى أن القرآن أستخدم كثيرا ً أسلوب السرد بقص حكايات من الزمن الماضي ليعتبر بها المسلمون. فحكاية النبي إبراهيم تبدو أكثر جاذبية من فكرة التوحيد التي تبناها, وقصة النبي موسى وأصحاب الكهف كذلك. ومن واقعنا الحالي, لايمكن لك أن تقول لرب العمل حين تتأخر عن الدوام بأن الإنسان عرضة للنسيان فلابد أن تقدم له قصة معينة تكون سببا ً لتأخرك مثل تأخر الباص عن موعده أو مرض أحد أبنائك وهكذا. إذن, لابد من سبب مقنع لكل فعل أو فكرة والأسباب لابد أن ترتبط بحكاية مقنعة فالواقع الإجتماعي ليس كالواقع المادي بأن الحرارة هي سبب التمدد, إذ أن الواقع الإجتماعي يعتمد على قصة عاطفية ذات بعد تراجيدي كما يحدث مع قصة مقتل الإمام الحسين وصلب السيد المسيح فعليهما تقوم مناهج وأفكار وطوائف باكملها. ولكن, ماقصة داعش؟
هناك قصتان لداعش, الأولى من الحاضر والثانية من الماضي. فقصة داعش تختلف عن قصة القاعدة وهي وليدتها. لقد كانت قصة القاعدة هي الحرب على الصليبيين المحتلين الذين نصبوا ملوكا ً ورؤساء علينا وماهم إلا عملاء لهم, فمن الواجب قتال الغربيين والحكومات التي تساعدها. بالتأكيد, حينما يراد لتلك القصة أن تكون حقيقية لابد من ربطها بالتراث أو التاريخ باستحضار قصة الصراع الإسلامي البيزنطي في الحروب الصليبية ورمزية صلاح الدين في كل ذلك. أما داعش فأن قصتها المظلومية, نعم, مظلومية أهل السنة في العراق وسوريا واليمن وهي حاولت مرارا ً وتكرارا ً أن تجذب الغربيين بذبح رهائنهم لدائرة الصراع لتطور قصتها من صراع سني شيعي أو سني سني موالي للغرب إلى إسلامي غربي. لأن تحويل الصراع إلى إسلامي غربي صليبي مسيحي كافر سيدعم بالتأكيد فكرة الدولة والخلافة الإسلامية التي كانت لها صراعات طويلة مع الدولة البيزنطية. أما قصة الصراع السني الشيعي فيستحضر داعش قصة وهن الأمة بعد أن أنشق نفر منها كما يزعم بمؤامرة يهودية تزعمها أبن سبأ اليهودي لتطفو على السطح طائفة جديدة لابد من إزالتها لنعود للإسلام النقي الخالي من الشوائب. نعم, فما وراء فكرة النقاء المثالية قصة التخلص والتطهير الداخلي قبل الإنطلاق إلى الخارج للتبشير بثوب أبيض خال من كل الملوثات, فالتخلي قبل التحلي والتجلي كما يقول المتصوفة.
ليس هذا فحسب, فداعش يحاول ربط الحاضر بالماضي من خلال إستحضار صور الماضي والقصص التي حدثت في زمن النبي محمد وأصحابه لدعم كل مايفعله, إذ لاتبدوا أفعاله مقنعة إلا بوجود واقع فعلي حدث في الماضي. لقد حول داعش القصة التاريخية إلى أسطورة لها بعد مقدس, فالإسطورة تختلف عن القصة العادية التي يحملها التراث وترسم مخيلة الشعوب بحكاوى شعبية بأن لها بعد ديني مقدس إذ لايمكن التشكيك بصحتها فضلا ً من نفيها كليا ً. إذ لاتكفي فكرة أن الإسلام هو الحل بقدر سرد ماكان يجري في زمن النبي محمد وتأسيسه لأول مجتمع إسلامي يتصف بالأخوة والمحبة والنقاء والصفاء, ولاتكفي فكرة نشر الإسلام مالم يستحضر الخطاب الديني الذي يسوق للفتوحات وقصة لاتقطعوا شجرة ولا تجهزوا على جريح ولا ولا. وأن محو وتحطيم تراث إنساني بحرق الكتب وتهشيم كل ماموجود في متحف الموصل من آثار إنسانية يستحضر قصة دخول النبي لمكة وتحطيمه للإصنام ليطرح فكرة التوحيد المجردة بإله واحد ليس ذي طبيعة مادية. أن تلك القصص تحولت لإساطير لايمكن التشكيك فيها لقدسيتها مع أن ماحدث في زمن النبي من تجاوزات ومابعده من كوارث بفعل الصحابة أنفسهم يتجاوز حد التصديق, فيكفي أن ثلاث من الخلفاء ماتوا قتلا ً وأن أبن بنت النبي مات ذبحا بعد عقود بسيطة من وفاة النبي محمد, وأن ماحدث في غزوات المسلمين لباقي البلدان بأسم الفتوحات يندى له جبين البشرية.
يحاول الكثير من الفقهاء والمفكرين ومؤسسات بحثية دينية وغير دينية تقف خلفها دول كبيرة لتفنيد أفكار داعش بمحاورتها عقليا ً من خلال الرد عليها عقائديا ً وفقهيا وغير ذلك. هم يعتقدون بأن الحوار معهم سيجعلهم يعودون إلى رشدهم ويتركون ماهم عليه من توحش فاق الخيال. أن هذا الأسلوب لاينفع بأي حال من الأحوال. شيئان يمكن أن ينفعان, الأول هو تفنيد قصة داعش وذلك بطرح خطاب ديني جديد وليس تجديد الخطاب الديني كما يحاول أن يفعل البعض وبعض المؤسسات الدينية الرصينة. أن ثقافة المجتمعات التي ينمو فيها داعش بمخيلتها التي صاغها الخطاب الديني لعقود طويلة تشكل مصدرا ً أساسيا من مصادر دعم داعش ببقائه وتمدده. فالخطاب الديني الذي يتسمم به الشباب لعقود طويلة مبني على نفي الآخر العلماني الغربي من جهة ومتصحر بفعل أموال البترودولار الذي تبنى الفهم الحرفي الضيق للنص الديني ليمثل مصالح مجتمعات ودول كانت حاضرة بدعم الإرهاب حتى سنوات قليلة.
أن تفنيد قصة داعش يعتمد أولا ً على فصل قصة الحاضر عن قصة الماضي, وثانيا فصل وتجريد قصة الماضي من القدسية وتحويلها من أسطورة إلى قصة عادية يمكن مناقشتها وتحديد مكامن الخلل فيها بعد تحليلها بشكل موضوعي. أما الأمر الثاني فهو تغير الضروف الموضوعية التي فعلت من أفكار وقصص داعش وجعلتها حية, فكلنا نعلم أن أفكار وقصص داعش قديمة, إلا أن فاعليتها جائت الآن بوجود ضروف موضوعية كالفقر والجهل والتهميش السياسي بعدم وجود خطة تنموية تساعد الشباب على المشاركة فسلمتهم للفشل. أضف إلى ذلك بان داعش تقف ورائها إرادات سياسية دولية وأقليمية تمثل مصالح فئات معينة. أن داعش يعتمد على فشل المجتمعات والحكومات بالنهوض فيطرح البديل بأفكار وقصص تبدون خيالا ً إلا أنها للبعض كتاب مقدس لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
مقالات اخرى للكاتب