العراق تايمز: كتب باسل عباس خضير
قبل يومين ، تعرضت ابنتي إلى وعكة صحية مفاجأة اضطررت لنقلها إلى طوارئ إحدى المستشفيات الحكومية في بغداد ، وبعد أن أجرى لها الكادر الطبي والتمريضي المناوب الإجراءات الطبية الأولية أعلموني بوجوب إبقائها تحت المشاهدة لساعات ليتم اتخاذ القرار المناسب لاحقا بإدخالها ردهات المستشفى أو إخراجها فيما لو استقرت حالتها المرضية ، وقد وافقت على طلبهم في الحال وتركت لهم حرية اتخاذ القرار ، وفي مثل هذه الحالات يسمحون لأحد أفراد العائلة بالبقاء قريبا من الحالة من باب اطمئنان المريض أو للاستعانة به في إعطاء المعلومات أو جلب بعض الاحتياجات ، وحسب ما هو معروف فان ردهات الطوارئ غالبا ما تستقبل الحالات الحرجة والحوادث وهي في حركة دؤوبة سيما في أوقات الذروة التي تشتد كلما اقترب الليل ، وقد شاهدت فعلا العديد من الحالات المتعلقة بإصابات مرضية منها المضاعفات والحروق وحوادث المرور وقضايا الشرطة والتسمم الغذائي ، والحق يقال إن الموجودين من ملاكات المستشفى كانوا على درجة مقبولة من الكفاية والأهلية في التعامل مع اغلب الحالات بضوء المتاح من الإمكانيات ، وعندما تظهر الحاجة لتعمق المعالجة تتم الاستعانة بالأطباء الحافرين في الردهات الداخلية سواء من الاختصاصيين أو الأقدمين .
وفي وسط هدوء شبه نسبي غطت فيه ابنتي ببداية نوم عميق من تأثير الدواء سمعنا صوت نحيب نسائي قريب من المستشفى وقادم إليها بألم وحزن على الطريقة العراقية وكأنه تشييع جنائزي ، وباقتراب الصوت بطريقة سريعة جدا كان شابا يحمل فتاة في أحضانه ووالدتها تهرول ورائهم مع البكاء و ( اللطم ) والتوسل إلى الله ورسوله وآل بيته بان يبقيها حية وان لا تفقد جزءا مهما من جسدها ، وعلى الفور قام كادر الطوارئ باستقبال الحالة وإدخالها في غرفة العمليات الصغرى ثم اقفلوا الباب لكي يتفرغوا لإسعافها دون تطفل من الزائرين ، وفي هذه الأثناء ارتفعت أصوات الأم في البكاء والتوسل والنحيب وهي تضرب الأرض ويبدو إن سرعة الحادثة اضطرها للقدوم بملابس البيت ( الدشداشة ) وبدون وضع أي غطاء على رأسها وهي تقطع بشعرها من شدة الحزن ، وقد استيقظ جميع المرضى لعل منهم المخدرين وممن تناولوا المهدئات من صيحاتها وبكائها ، وفي خضم أحداثا مأساوية بالفعل كان يقف مجموعة من الشباب جاءوا لمرافقة أهلهم المرضى وقام احد هؤلاء الشبان بخلع ( التي شيرت ) الذي يرتديه ليضعه على رأس تلك المرأة لكي يستره وبقي هو بدون أي شيء في الجزء العلوي من جسده إذ لم يكن يرتدي حتى ( الفانيلة ) ، ولأن الجو باردا خارج الردهة و ( الولد ) خرج منها لأنه لا يريد أن يبقى نصف عاريا أمام نساء وشابات يرقدن على أسرة الطوارئ ، فقد هرع إليه احد العاملين في المستشفى لينزع له قميصه طالبا من أن يلبسه لكي يستر جسمه النحيف ويحميه من البرد ، ورفض الشاب اخذ القميص ولكن الآخر أصر قائلا له : أنا ارتدي صدرية وسأدخل إلى غرف أصحابي الموظفين لكي أتدبر منهم قميصا ارتديه .
وفي تلك الأثناء اغرورقت عيون الحاضرين دموعا بحالتين ، حالة الأم التي كادت إن تفقد عقلها على ابنتها المصابة التي ظهر فيما بعد إنها مصابة بكسور وجروح في القدم من حالة دهس بسيارة وقد زال الخطر عنها ، وحالة الشاب الذي تعرى بنصف جسمه لكي يستر رأس امرأة لا يرتبط بها بمعرفة سوى إنها عراقية ، فضلا عن حالة الكرم التي وصلها الموظف وهو أثناء واجبه ليعطي قميصه لشاب لا بعرفه ، وربما فعل ذلك عفويا ليكافئه على موقف أنساني مع تلك المرأة المسكينة التي أبكت جميع الحاضرين ، وفي تلك اللحظات أحسست بقشعريرة أصابتني من تلك المواقف الايجابية التي تنبئنا أننا بخير وان الأمل موجود فالألفة والمحبة لا تزال تسكن النفوس رغم سيئات السياسيين الفاسدين ، وفي لحظتها تبادرت لذهني عشرات أو مئات الأسئلة رغم إنني اعرف إجابتها بالضبط كوني عراقيا وقد شربت من دجلة والفرات ، ومن بين تلك الأسئلة هل بحث الشاب عن جنسية المرأة لكي يعرف أنها من أية قومية أو دين أو مذهب وهل إن الموظف الصحي قد عول على مردود مادي آو غيره قد يحصل عليه عندما خلع قميصه ليهديه لصاحب ( التي شيرت ) ويبقى بصدريته الرسمية بدون قميص ؟ ، وهل إن الذين بكوا على تلك الفتاة التي لم يرونها في الأصل إكراما لجمالها أو مالها أو مركزها الاجتماعي ؟ ، أم أنهم تصرفوا بعراقيتهم واستذكروا أو تذكروا حالة الأم التي يزف لها شهيدا من جبهات القتال أو فتاة تسقط بطلقة قناص أو شظية هاون بغدر الدواعش الأنذال الذين يدعون الخلافة الإسلامية ؟؟
نعم ، لقد أتعبتني تلك الأسئلة وأنا في ردهة الطوارئ وكدت اسقط أرضا من الألم الذي احتبس في صدري ولولا خوفي على حياة ابنتي أن تصاب بذعر يعقد حالتها الصحية لطلبت المساعدة الطبية ، ولكني تمالكت نفسي وقلت حسبي الله على من أوصل العراق والعراقيين إلى حال يقتلون فيه البعض من اجل المال ، ويسرقون أصوات الناخبين ولقمة العيش لكي يلعبوا البوكر والروليت أو يتعاطون المخدرات والملذات أو ينثرون الدولارات على الأجساد القذرة للعاهرات ، فهل الفاسدون والسارقون هم من شعبنا حقا ؟ وهل هم من طينة صاحب ( التي شيرت أو الصدرية ) أم إنهم مخلوقات من خارج الفضاء العراقي وربما غير محددي الأب ولا يعرفون غير الأم ، أقول واعتقد إن ذلك من بديهيات الأمور ، إن الإنسانية والطيبة والكرم والمحبة والتسامح مزروعة عند العراقيين الحقيقيين وهي موجودة في جيناتهم وكروماساتهم عدا الحالات المتعارف عليها علميا على إنها طفرات أو شذوذ وهي لا تشكل سوى نسب معينة ومحددة كميا ، أما الحالات المليئة بالأحقاد والفتنة التي يحاولون نشرها وزرعها هنا وهناك فهي حتما أجندات خارجية ، ويتم إدخالها مقابل أثمان لجلب الاحتلال والإساءة إلى تاريخنا وسمعتنا كشعب ، فلدينا ثلاثة ضابطات على الأقل هي الحرام والعيب والممنوع ، وهذه المقدسات هي التي جعلت مئات الآلاف من رجالنا ونسائنا يقاتلون ويستشهدون في القوات المسلحة والحشد الشعبي ، نعم فالشرف والكرامة والأمانة هي التي تجعل طالب الكلية أو المعهد أو غيرهم يذهبون للقتال وفي أيام الإجازة يحضرون لانجاز فروضهم الدراسية على قدر المستطاع ، أوان يقضوا أوقات إلا جازة للعمل بمشقة لتدبير أجرة السيارة ومصرف الجيب وعلبة السكائر للعودة إلى جبهات الشرف والمواجهة لان الخونة يتعمدون بتأخير رواتبهم ليجعلوهم بحالة يأس ، ومن أفعال الإنسان ( الرجل ، المرأة ) نستطيع إن نميز العراقي صاحب الغيرة والنخوة عن غيره ، وبأسا لكل من يعمل لإيقاع الضرر بالعراقيين بما في ذلك الاستعانة بمن يسرق ثرواته والعار كل العار لهم في الدنيا والآخرة بإذنه تعالى .