لعل البعض يعدها مزحة عندما يسمع بنية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الاستيلاء على نفط العراق ، فقد كرر ذلك في حملاته الانتخابية وبعض خطاباته بعد التنصيب وهو لم يقولها سرا أو بأصوات منخفضة وإنما جهر بنواياه واعتبر ذلك من استحقاقات وحقوق الولايات المتحدة الأمريكية لسببين ، فمن وجهة نظره إن أمريكا هي صاحبة الفضل على العراق والعراقيين في التخلص من نظام دكتاتوري عندما قامت باحتلاله وقدمت العديد من التضحيات من أبنائها وأنفقت تريليونات الدولارات وهذه ليست خدمات مجانية تقدم للعراق وإنما أموال أمريكية يتوجب استردادها لأصحابها الشرعيين ، أما السبب الثاني فان سوء الإدارة في العراق بعد الانسحاب ( الخاطئ ) للقوات الأمريكية فتح شهية السراق لكي يعم الفساد بشكل سمح لتمدد الجماعات المتطرفة فانتعش تنظيم داعش الإرهابي الذي عاش على سرقات النفط ، وهو اليوم يشكل خطرا على العالم وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية لان الإرهابيين يصرحون باستهداف الإفراد والمصالح الأمريكية أينما تكون ، ووجه الغرابة في تصريحات ترامب تسير عكس المطلوب لان المواثيق الدولية تفرض على المحتل تحمل تبعات أفعاله من الاحتلال ، ونقصد بذلك تعويض الأضرار والخسائر وتسوية الخلافات بالترضية مع الأفراد المتضررين وليس تعريض البلد أحادي الإيرادات إلى الإفلاس .
ورغم إن المسوغات التي يصوغها ترامب غير مقنعة في استحواذه على نفط العراق ، فان يعدها البعض ضمن سياقات الترهيب التي يتبعها لإخافة العالم من سياساته التي تنطوي على قدر كبير من التطرف في أكثر الأحيان ، إلا إنها غير بعيدة الوقوع في ظل الوضع الدولي الحالي الذي يتحاشى التصادم في الصراعات لما لذلك من تداعيات مصيرية ومأساوية ، فهناك أكثر من حالة تدل على تحاشي تدخل الدول الكبرى في بعض النزاعات وانقسام الآخرين بين مندد ومؤيد وغيرها من أشكال التعبير الخجولة أو المخجلة عن المواقف إزاء الازمات الكبيرة ، دون أن نهمل حقيقة إن البعض يتمنى أن يبقي القتال مع التنظيمات الإرهابية في حدود العراق وسوريا للقضاء عليه وعدم انتشار تأثيراته على الآخرين ، ويلاحظ إن التهديدات الجديدة تخلو من بعض الشعارات الرنانة التي كانت ترددها الولايات المتحدة قبل الاحتلال والمتعلقة بالخطر العراقي على أمن واستقرار ( إسرائيل )، مما يعني إن الموضوع تحول من نظرية المؤامرة التي كانت تحيكها الإدارات السابقة ضد العراق إلى معالجة واقع يتعلق بالمنطقة والعالم والمصالح الأمريكية بسبب الإمكانيات التي بات يمتلكها داعش ، والتغلغل الإقليمي في المنطقة الذي بات أمرا واقعيا ولا يمكن غض النظر عنه بعد أن تحولت إيران إلى ثقل وقوة مؤثرة في معادلة التوازن والتأثير الإقليمي والدولي .
وعلى فرض إن الإدارة الأمريكية الجديدة قد حزمت أمرها في التحكم بنفط العراق فان السؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بالكيفية التي سيتم فيها إدارة الاقتصاد الوطني وهو الذي يخص العباد والبلاد ، إذ يعتمد على 95% من الإيرادات النفطية لتغطية النفقات في الموازنة الاتحادية كل عام ، وقد يقول أحدا إن ذلك غير ممكن لان عصر الاحتلالات قد انتهى وان العراق في 2017 ليس كما كان عليه في 2003 من حيث تنامي قدرات الفصائل المسلحة ( التي تحولت اغلبها إلى منظومة الحشد الشعبي ) في التصدي لأي عدوان خارجي ومقاومة الاحتلال وتكبيده خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات ، وهي آراء محترمة بالطبع ولكن ما يقابلها الوجود الفعلي الأمريكي داخل العراق تحت تسمية المستشارين وامتلاكها لأكبر سفارة في العالم داخل العاصمة بغداد وقدرتها على استخدام أسلحة متطورة لا تتطلب التواجد البري الواسع ، ونقصد بها الطائرات والصواريخ وأسلحة الدمار الشامل عن بعد ، فضلا عن رغبة البعض لإعادة احتلال العراق اعتقادا منهم بان إعادة الأعمار لا يمكن أن يتم بضوء الإرادة والإمكانيات المحلية مما يتطلب تدخل مباشر من دولة عظمى للقيام بهذه المهمة ، وهناك من يعول على الخارج لتصحيح الأوضاع الداخلية بعد أن اثبتوا عدم القدرة على التوافق اللازم مع العملية السياسية مهما بلغت مرونتها في إدارة البلاد .
وفي ظل اقتصاد وطني يعاني من الوهن والضعف وعدم القدرة على الإنتاج وتهالك أو تقادم البنى التحتية فان القدرة على إمكانية إدارة الاقتصاد بغياب الإيرادات النفطية سيشكل أزمة حادة وليس واحدا من التحديات ، فأي نقص في الإيرادات النفطية الحالية من شانه أن يشل قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد بشكل واضح وكبير لأننا نشكوا ضعف الفاعلية والكفاءة في الإدارة بشكل عام وهي من عوامل عدم الأهلية على تحقيق الأهداف منذ سنين ، فالموازنات الاتحادية للسنوات الثلاث الماضية شهدت عجزا واضحا بسبب انخفاض إيرادات النفط ، مما أدى لإتباع سياسات تقشفية أضرت وتضر الفقراء الذين يشكلون 40% من السكان والاقتراض من الخارج الذي يحرج البلد عند المطالبة بالسداد وسحب 50% من احتياطي العملات الصعبة في البنك المركزي العراقي لغرض تغطية الرواتب وبعض المصاريف التشغيلية ، بعد أن توقفت أكثر المشاريع الاستثمارية وتحولت الموازنة الحكومية إلى استهلاكية أمام العجز في تمويل النفقات الاستثمارية وعزوف المستثمرين في الداخل والخارج على ولوج الاستثمار لأسباب تتعلق بالتكاليف وارتفاع المخاطرة وعدم إتباع سياسات حازمة لحماية المنتج المحلي نظرا لتباين الأسعار وفرق التكنولوجيا السائدة في العالم والمطبقة بالداخل فواقع الحال إن اقتصادنا يتعكز على النفط .
ولعل ما يزيد الموضوع تعقيدا إن موعد تهديدات ترامب تأتي بالتزامن مع اقتراب نهاية ولاية الحكومة الحالية والاستعداد لانتخابات مجالس المحافظات ومجلس النواب ، والتي قد تجلب حكومات بذات الأسماء لكي تكرر أخطائها التي وقعت بها منذ 2006 ولحد اليوم ، فهذه الحكومات تتغاضى عما سلف ولم تتبع أدوات وأساليب لإبراء ذمتها وتحليل الحسابات الختامية لمئات المليارات من الدولارات التي أنفقت دون تحقيق أهداف واضحة تخص الجمهور ، لأنها تتمنى المنجزات ولكنها تعجز عن تحقيقها وتجيد في عرض المشكلات وإبقائها بلا حلول ، ورغم إن ما نطرحه ينطوي على نظرة متشائمة إلا انه جدير بالمناقشة والتحسب لكل الاحتمالات لكي نستفيد من الوقت ونتخذ إجراءات تقلل الضرر على شعبنا المظلوم ، فالقضية تحتاج إلى نكران للذات لتكريس الجهد والوقت والاهتمام لمواجهة تهديدات ترامب بدلا من الانشغال الكامل بالانتخابات ولمن الغلبة ستكون ، فالقضية لا تتعلق بالنفط كنفط وإنما بمعيشة السكان الذين تتناقص قدراتهم المعيشية يوما بعد يوم ، فلم يلمس أحدا بارقة أمل في إنقاذ الاقتصاد الوطني من أزماته الحادة وضعف إسهام القطاعات الأخرى في الدخل القومي بعد شبه توقف للزراعة والصناعة والسياحة ، فواقع الحال يشير إن اغلب الجهد يتركز في توزيع إيرادات النفط وإذا وضع ترامب اليد عليها فماذا سندير ؟؟ .
مقالات اخرى للكاتب