يولد الإنسان شريراً خبيثاً قاسياً محتالاً كذوباً . الولد الصغير لا يعرف إلا نفسه ولا يرى إلا نفسه ولا يحب إلا نفسه ولا يألم من نفسه وفيه أثرة هائلة لا حد لها . هذه العيوب تنمو مع الطفل وتبقى فيه حتى يصل إلى سن الرجال فيتعلم كيف يخفيها ، يحس ظاهره ويستر باطنه. أعظم ما تنتجه التربية الجيدة إذا أستمرت بلا انقطاع هو أن تقطع من النفس فروع هذه الشجرة الخبيثة ولكنها لا تستطيع أن تقلع جذورها… لابدّ أن تكون الغاية النهائية للتربية الأدبية هي العفو عن الخطيئة – العفو عن أكبر خطيئة العفو عن كل خطيئة – هل المخطئ مسؤول أو غير مسؤول ؟ وما هي درجة مسؤوليته ؟ مسألة عظيمة يجب على كل من يريد الحكم على غيره أن يحلها ، لكن حلها يكاد يكون محالاً إذ لا يستطيع أحد أن يلم بجميع العوامل التي تترتب منها الذات الإنسانية بوجهيها الأدبي والمادي والقليل الذي يعلمه من ذلك يبين أن سلطة الإرادة على النفس محدودة وخاضعة لمؤثرات كثيرة شديدة تتنازعها وتقارعها وتضعف قوتها على نسبة مجهولة ومقدار لا يصل إلى تقديره عقلنا وكل تاريخ الإنسان في الماضي يدل على أنه لم يكن متولداً عن الحيوان المفترس مباشرة فهو مشابهه له في شره وأطماعه وشهواته. خلق عليل النفس كما هو مريض الجسم . خلق على أن تكون صحته الجسمية والعقلية صدفة سعيدة وعارضاً مؤقتاً … فالخطيئة هي الشيء المعتاد الذي لا محل للأستغراب منه. هي الحال الطبيعية الملازمة لغريزة الإنسان هي الميراث الذي تركه آدام وحواء لأولادهما التعساء من يوم أن أقتربا من الشجرة المحرمة وذاقا ثمرتها التي يتخيل لي أنها كانت ألذ من كل ما أبيح لهما.. من ذلك اليوم البعيد لوثت الخطيئة طبيعتهما وأنتقلت منهما إلى ذريتهما جيلاً بعد جيل . ذلك هو الحمل الثقيل الذي تئن تحته أرواحنا الملتهبة شوقاً إلى الفضيلة . العاجزة عن الحصول على اليسير منها إلا بمقاساة أصعب المجهودات . حتى هذا النزر القليل لا سبيل إلى بلوغه إلا بتمرين طويل يتخلله حتماً سقوط متكرر في الخطيئة يكون منه الدرس المفيد لاتقائه في المستقبل .. وأخيراً فإن العفو هو الوسيلة الوحيدة التي ربما تنفع لإصلاح المذنب فقلما توجد طبيعة مهما كانت يابسة لا يمكن أن تلين إذا عولجت … فالفضيلة والرذيلة يتنازعان السلطة على نفس الإنسان في جميع أدوار حياته فتارة تخضع للأولى وتارة تغلب عليها الثانية ( ولا يوجد رجل مهما بلغ من التربية والعلم يكون آمناً من السقوط يوماً في الرذيلة كما لا يوجد رجل مهماً أحاطت به الرذيلة إلا وفيه أستعداد لأن يأتي يوماً بأفضل الأعمال). وحقيقة الأمر أن أخلاق الإنسان ليست شيئاً يتم دفعة واحدة وليس لها حد تقف عنده أنما هي في تحليل وتركيب في تكون مستمر يعتريها الانحلال زمناً وتعود بعده إلى التماسك وتحضرني هنا مقولة السيد المسيح (عليه السلام) حين قال لجماعة من القوم كانت (ترجم أمرأة) لَمَ ترجمونها ؟ فقالوا : أنها (زانية) فقال لهم : من منكم بلا خطيئة فليرجمها !! … فالطبيعة (والإنسان من مفرداتها) – كما يقول المفكر البريطاني : “ويليام أنج ” كلها تتلخص في فعل ” أكل ” .. مرة في صيغة المبني للمعلوم ومرة في صيغة المبني للمجهول !!
مقالات اخرى للكاتب