ان هذا العقل العظيم للانسان الذي يعد له اثمن ما انعمه الله عليه، قد حقق الاكتشافات الاولى التي ادخلت الانسان ميدان الحضارة رويدا رويدا - - - وفي الغالب تمت هذه الاكتشافات عن طريق المصادفة، ثم انتبه اليها الانسان فقام قصدا يكررها بعد ذلك لتصبح جزءا من حياته. فاكتشف الزراعة، وكان هذا الحدث قد وقع مصادفة ايضا، كأن سقطت بعض الحبوب على الارض وغاصت فيها وبعد ايام بدأ النبات في الظهور ثم نما واصبح شجرة كاملة التي بدورها اخرجت حبوبا من نفس النوع، وقد حدث ذلك مرارا حتى تنبه اليه الانسان – فأخذ حبوبا ودسها في الارض فأخرجت نباتا. فكررها حتى تأكد من تجربته، فطبقها بعد ذلك على نطاق واسع. وانتقل بذلك من طور جمع الغذاء الى طور زراعته.
وكذلك الامر بالنسبة لاكتشاف فوائد النار، فقد كانت الارض قبل ملايين السنين كثيرة النيران من براكين وشهب متساقطة وحرائق مستعرة في الغابات – ثم اخذت هذه النيران تقل تدريجيا - - وعندما بدأ الانسان مسيرته على هذا الكوكب كانت النيران لا زالت كثيرة، فتعود الانسان ان يعيش غير بعيد عنها التماسا للدفء في الشتاء وطلبا للانس في وحشة الليل ثم حدث ان احترق حيوان فشم الانسان للحم المحترق رائحة طيبة، وعندما تناول قطعة من جسد الحيوان المحترق وجد اللحم قد لان وطاب طعمه، فتنبه الى هذه الحقيقة وصار اذا صاد حيوانا القى به في النار – وصار يحرص دائما على ان يأخذ قبسا من النار الطبيعية المشتعلة ليشب بها نارا، وسط موضع مقامه ثم يستمر في تغذيتها بالحطب حتى لا تنطفئ – ودخلت النار حياته واصبحت جزءا منها. واستخدم النار لا في طهو الطعام فحسب بل في تليين المعادن وتشكيلها في الصورة التي يريد. - - وعندما تمكن من صنع اناء من المعدن عرف تسخين الماء.
والجدير بالذكر ان الهنود الحمر مثلا رغم معرفتهم بقوة النار في تليين المعادن وتمكنهم من صنع الحراب والآلات القاطعة ورؤوس السهام الا انهم لم يعرفوا قط صنع الاواني من المعدن – ولهذا فانهم لم يتوصلوا قط الى تسخين المياه واستخدام ذلك في طهو الطعام.
ثم انتقل الانسان بعد ذلك الى طور صناعة النار وكان هذا ايضا مصادفة في اول الامر – فقد لاحظ ان انواعا من الاحجار اذا ارتطم بعضها ببعض، خرج منها شرر، وحدث ان اتصل هذا الشرر بعشب جاف فاشتعل، ففطن لذلك وكرر هذه العملية عمدا واصبح قادرا على ان يوقد النار بنفسه. دون حاجة الى الاتيان بأقباس منها من مصادرها.
ومثل هذا يقال عن اختراع الفخار – فقد لاحظ الانسان انه اذا شب النار في موضع فيه طين، صلب الطين بعد ذلك – فعمد الى تجربة ذلك ثم صنع شبه اناء من ذلك الطين واحرقه فخرج له من ذلك اناء صلب فدخل بذلك في عصر الفخار – هذا ما حدث اول مرة في مملكة العُبيد، قبل ظهور الدولة السومرية في جنوب العراق القديم –
وعرف كيف يصنع المواعين بشتى اشكالها واستخدامها لحفظ الماء وخزن الطعام، فخطت حياته بذلك خطوات فسيحة في ميدان التطور.
* الحضارة لحسين مؤنس مع التصرف.
مقالات اخرى للكاتب