هل عندنا ساسة؟!! تساؤل يتردد في خلد من يتأمل ما يحصل من أحداث ونقاشات وطروحات ونزاعات محتدمة في بلادنا , ويحاول أن يبحث عن القاسم المشترك بينها لكي يفهم حقيقة ما يدور في عالمنا الدامي.
ومَن يتعمق في البحث عن الجواب يكتشف أننا لا نمتلك ساسة ولا نعرف العِلم السياسي , ولا يوجد في أجيالنا السابقة والحاضرة منظرين سياسيين , وقادة قادرين على إستيعاب مفردات الواقع والنهوض بالوطن إلى حيث عليه أن يكون , وبسبب هذا الفراغ السياسي على مدى عدة عقود ولحد الآن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
فالواقع العراقي يخلو من الساسة , لأن الساسة الحقيقيون أصحاب الخبرات الواقعية والعلوم العملية في التعامل مع الدنيا دولا ومنظمات , قد أسسوا دولة العراق في بداية القرن العشرين و (وضعوا) دستورا متطورا مضت على ضوئه لِما يقرب من أربعة عقود بتفاعلات ديمقراطية ومعرفية ذات قيمة تفاعلية لا تخلو من الشوائب.
هؤلاء هم الرعيل الأول المترشح من الإمبراطورية العثمانية بعد سقوطها , والمتفاعل مع القوى المهيمنة آنذاك , وكان من المفروض أن تتواصل أجيال السياسة العراقية وتتوالد , وتتفاعل من أجل صناعة ساسة يستوعبون حالة العراق ويكونون بحجمه , ويؤسسون لمستقبله شأنهم شأن الدول التي من حولهم.
لكن الذي تم في العراق هو الإجهاز على الرعيل الأول من الساسة والقضاء عليهم تماما , وإقامة الأنظمة العسكرية التي عطلت العمل بدستور دولة العراق , ومضت على هدى الدستور المؤقت حتى خاتمتها المعروفة في التاسع من نيسان عام ألفين وثلاثة.
وقد حصل في تأريخ العراق المعاصر إنقطاع شامل وصراع ما بين العراقيين , الذين يرغبون أو يعملون بالسياسة , حتى ترسخ في عقولنا وضمائرنا أن العمل السياسي عبارة عن صراع دامي وحرب لا هوادة فيها بين أبناء الشعب الواحد.
فالذي لديه رأي سياسي لا بد له أن يعيش بالسجون , ويُحسب على أنه ضد النظام القائم , وأن عليه وعلى كل من يمت بصلة إليه أن يذوق الأمرين , لأنه صاحب رأي ونظرة قد لا تتفق مع طبيعة النظام العسكري المهيمن على السلطة.
أما موضوع الإنتماء لحزب غير حزب السلطة فأنه من المحرمات , التي تودي بحياة الناس. ومضى في وعينا أن العمل السياسي مهنة دم وسجون وتعذيب وتنكيل وفتك بالآخر من أجل السلطة , ولا يزال هذا الفهم يقودنا إلى الويلات والمآسي والتشظي وفقا لرؤانا السلبية , وما تراكم عندنا من وعي ظلامي وإنحراف في الرؤية والتفكير.
فالفرد الذي ينتمي إلى حزب آخر هو عدو , ولا بد من التصارع والإقتتال معه وتوفير أسباب التنكيل به وتخوينه وتجريمه , ومن ثم قتله أبشع قتلة وتشريده والنيل من كل ما يتصل به.
لقد تأسس في أعماقنا نظام منحرف لا يمت إلى العصر بصلة , وترسخ في أذهاننا أن السياسة إمتلاك السلطة والإستحواذ على الكرسي المقيت. وفي هذا الخضم المتلاطم من التفاعلات الدامية على مدى العقود, إبتعدنا عن العراق كوطن وصارت همومنا تنصب على الحزب والرئيس أو القائد والكرسي , والقبض على الحكم والتحكم بمصير الآخرين وتحديد حريتهم ومصادرة حقوقهم.
وأضحى الوطن في مفهومنا عبارة عن كرسي أو شخص أو حزب مستحوذ على السلطة في بلد يئن من صراعات أهله وفتكهم به. وبسبب ذلك أمست ثقافتنا ثقافة كراسي وثقافة مناصب وإستبداد وإنفراد بالسلطة.
وبعد التاسع من نيسان الفين وثلاثة , تواجدنا بكل ما ترسب فينا من عوامل نفسية وعقد وإنفعالات وتفاعلات سلبية , وجلسنا نواجه أنفسنا وسورات الغضب والإنفعال والإنتقام تعتمل فينا , وتفرض علينا ما لا يقبله العقل ويرضاه الواقع وتنفر منه جميع القيم والمعايير.
ووجدتنا نحاول أن نبعد كل ما يذكّرنا بالمآسي والويلات والإنتقامات , وحسبنا أننا سنحقق ذلك بتكرار ذات الممارسات , وإذا بنا نسقط في وادي الدمار الشنيع الذي لا يرجوه أيا منا , ولا يرغب به لكنه أصبح مأسورا به ويتحرك وكأنه بلا إرادة أو قرار.
رجعنا إلى ذات النقطة التي هي عبارة عن محطة فراغية بلا ساسة , محطة خالية من العقل السياسي والخبرة السياسية , ومبنية على الرغبة القصيرة الأمد , والبعيدة جدا عن الصواب , وهكذا ترانا نتخبط ونحسب أننا نصيب ونريد الخير للشعب والوطن , ونحن نجري إلى غير ما نريد ونرغب , وفي حقيقة ما نقوم به أننا نتبع ونقبع وحسب.
لأننا بلا خبرات ولا قدرات قيادية ووعي سياسي حضاري , وفهم معاصر وبعيد المدى للأمور التي نحن بصددها , مما وضعنا في محنة تأريخية وظرف مصيري لا نعرف كيف نواجهه , لأننا لا نمتلك المهارات الكافية للوصول إلى قرارات تأريخية ذات قيمة مهمة للبلد.
فإنطلقت رغباتنا ونحن نعبر عن ثقافاتنا الكرسوية التي تحررت من الردع والخوف , بل أسست قدراتها لكي تكون هي مصدر خوف وردع للآخرين من أبناء الشعب الذي إمتلكنا أمر تقرير مصيره.
وهكذا فالعراق يخلو من الساسة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة , وقد تكررت التجربة منذ سقوط المملكة العراقية , وأصبح الضباط المهنيين يحسبون أنفسهم ساسة , وما لديهم من علم السياسة شيئ مفيد.
وأصبح كل مَن يجلس على كرسي القوة يحسب نفسه خبيرا بالقيادة وينتهي إليه ويبدأ منه عِلم السياسة , وصار يسمي نفسه سياسيا ومناضلا كبيرا لأنه أزاح من كان يجلس على الكرسي قبله وجلس مكانه.
فالحكومات العراقية قاطبة ومنذ الرابع عشر من تموز عام ألف وتسعمائة وثمان وخمسين وإلى اليوم حكومات بلا ساسة , حكومات مبنية على رغبات سلطوية وتوجهات حزبية أحادية ضيقة الأفق ومحدودة المنطلقات والتطلعات. ولو كان هناك ساسة لما حصل الذي حصل , ومقارنة بسيطة بيننا وبين دولتي الباكستان والهند اللتان بدأتا بعدنا بربع قرن توضح ذلك بما لا يدع مجالا للشك.
ولهذا ترانا اليوم نعيش في زمن عراقي بلا ساسة.
عالم لا تجد فيه مَن لديه خبرة وطنية ذات قيمة مفيدة وجادة , وترتقي إلى مستوى الظرف العصيب الذي يمر به البلد.
عالم يستسلم للإنفعالات وتصفية الحسابات والإنتقامات , ولا يسمح للعقل أن يبوح بشيئ لأنه يصطدم بجدران الإنفعالات الفولاذية التي ستأخذ الجميع إلى ما لا تحمد عقباه.
وبسب غياب العقل السياسي وسيادة العقل المنفعل والآخر الذي يرى الأمور من وجهة نظره المحدودة أيا كانت تلك النظرة , ترانا في خضم صراعات ستؤدي حتما إلى ضياع الجميع وخسارة الوطن لكل ما يمت بصلة إليه.
فليس من السياسة أن يحصل الذي يحصل , وليس من السياسة أن يُطرح ما يُطرح , وليس من السياسة أن نرى ما نرى.
إن كل الذي يجري تبرره ثقافة الكراسي البغيضة , التي لا ترى أبعد من قوائم الكرسي , وهذا ما جرى في العراق على مدى أكثر من نصف قرن , وهو يتجدد بعزم وإندفاع أشد مما حصل أضعاف المرات.
ولهذا فالعالم ينظر إلينا بعين الهزء والإستغراب والعجب. ويتساءل ألا يوجد في هذا العراق ساسة. ونجيبه نعم لا يوجد ساسة, لأن العراق لا يُبقي على السياسيين وهذه هي أساس العلل.
العراق لا يوجد فيه تواصل أجيال أو تفاعلات سياسية , بل يوجد فيه تناحرات سياسية منذ أن عرفناه , ولن يتبدل طبعه إلا إذا شاء خالق الأكوان , وطاف صوت العقل في شوارعنا وإنتصرنا على الإنفعال الفتاك الذي يحصدنا حصدا , والتبعية التي تلقي بنا في جحيمات الهلاك.
وسنبقى نلقي باللوم على هذا وذاك , والعيب فينا وفينا جميعا وبلا إستثناء!!
نطلب من زوارنا اظهار الاحترام, والتقيد بالأدب العام والحس السليم في كتابة التعليقات, بعيداً عن التشدد والطائفية, علماً ان تعليقات الزوار ستخضع للتدقيق قبل نشرها, كما نحيطكم علماً بأننا نمتلك كامل الصلاحية لحذف اي تعليق غير لائق.
اخبار العراق اليوم تصلكم بكل وضوح بواسطة العراق تايمز