كانت اوروك القديمة ، تعج بشعبٍ تحكمه الالهه التي تسكن التلول الخضراء ، التلول التي لم يجرؤ احد يوما على المساس بها لاسوارها العالية ، و حراسها الاشداء ، و كانت الالهة الحاكمة هي سبب ما لحق باوروك من اذى ، فقد كانت لا تلتزم برايٍ واحد ، فتعقد دوما اجتماعاتها ، لتختلف لاحقا على ما تقرره بشان مصير اوروك و شعبها ، وكانت من اربعة الهه ، الهه الحرب ، و الهة الدمار ، و الهة الظلم ، و الهة الاستبداد .
وفوق كل ذلك ، كان شعب اوروك يعقد امله الوحيد على اله الشمس " شمش " ، الذي كان اقوى الالهة العادله و اعتاها ، و الذي كان يسكن السماء .
وفي اتون تلك السنين ، كان لفلاحٍ يسكن جنات عدن السومرية في اهوار سومر ابنٌ صغير اسمه كلكامش ،كان فتى ذكيا و نشطا في عمل الحقول و صيد الاسماك وقيادة الثيران و رعايتها ، فنشأ فتى قويا وتمتع بقوىً خارقة ، كما كان والده سيدا في قومه لحكمته و شجاعته .
كان كلكامش في الحادية عشرة لما توفي ابوه ، فتحمل مشقة العمل و رعاية مالديه من قطعان بعد رحيل ابيه ، لكنه ورث حكمة الوالد الحكيم ، و رياسته في اهله ، الى جانب تواضع ذلك الاب .
و بعيد طوفان نوح سنة 2003 ق.م ، دمرت جنات عدن تلك ، و جائت الهة التلول الخضراء لتزيد في دمار اوروك بكاملها ، فرحل كلكامش عن ارضه ، بعد ان نجا من كارثة الطوفان و اخذ يرتحل باصقاع اوروك بعيدا عن سومر وجناتها الخربه .
كان كلكامش ينحدر من اصولٍ شيعية ، وهي فئة دينية تدين بها نصف ما على اوروك من سكان ، الا انه لم يكن يعر لذلك اهتماما ، بقدر ما كان يسعى ليعرف السبب وراء دمار اوروك و جنانها و شعبها .
انكــــــــيدو
كما كان كلكامش الساكن على ضفاف التقاء نهري دجلة و الفرات شابا قل نظير قوته و ذكائه ، كان انكيدو قد ترعرع فارسا على ضفة الفرات في اعالي صحراء العراق الغربية ، وكان شديد البدن ، قوي الفطنة ، ورث حكمته و قوته من بيئته ، فهو وريث سلالات قديمة نشأت في منطقتة ، وكانت قد اتت من صحراء جنوب العراق ، في ازمانٍ سحيقه .
كان انكيدو هو الاخر الباحث عن سبب انقلاب ارض اجداده الى صحارى عقب الطوفان ، وكان كاهل اوروك الاخرين غاضبا على الهة التلول الخضراء ، لتورطها في دمار اوروك عقب ذلك الطوفان ، الا انه لم يجد بدّا من الخضوع لما يجري من احداث وعقوبات تنزلها الهة الدمار في اوروك و اهلها .
كما كان انكيدو ينحدر من الجماعة الثانية ، فقد كان سنيّا ، ولم يكن يعي كونه سنيا بقدر وعيه لان ما يجري في اوروك هو نسج مؤامرات الهة التلول الخضر .
في خضم بحثه عن سبب دمار اوروك ، جال كلكامش كل اوروك ، حاملا سيفه و ترسه اللذان لم يكونا ليفارقانه ، فاحست طيور الهدهد التي تتنقل الاخبار من كل اوروك الى الالهه بحركة كلكامش المريبة ، فنقلت الخبر الى الالهة في التلول الخضراء .
فقررت الهة الحرب ، ان ترتب صدفة للقاء كلكامش بندٍ يضاهيه قوة ، يعاكسه طائفة ، فوقع الخيار على انكيدو ، الذي نقلت الهداهد الاخبار عن تحركاته الى التلول الخضراء هو الاخر .
فبينما مر كلكامش على شط الفرات ، اخذ يستريح و يغرف من ماءه في صحراء غرب اوروك ، فينما هو يتامل وجهه في الماء الرقراق ، قفزت امامه افعى رقطاء ، ملساء قبيحه ، وناعمة ، فوجل منها و ابتعد ... ثم عاد وقال لها و هو يشهر سيفه :
هل تريدين ان تري جسدك مقطوعا عن راسك ؟
قالت : بل لا اريد ان ارى راسك مقطوعا عن جسمك الممتلئ ، فانا هنا لاخبرك بمن دمر جنات عدن .
قال وهو يغمد سيفه ، و الافعي تزحف خارج الماء :
بلى ، من الفاعل ؟
قالت : ان قلت لك فانك لن تضاهيه قوة كي تقضي عليه .
قال : بل تكلمي و سترين راسة يتدهدى على هذه الرمال !
قالت : انه انكيدو ، ذلك العملاق الخطير ، لقد نفخ في مغارة من جبال الشمال فاثار المياه من جوف الارض على الحقول و دمر عدن بجنانها ، وشرد اهل اوروك ..
فاستشاط كلكامش غيضا ، و استل سيفه و بدأ كانه يقاتل شبحاً و هو يصيح ، اين انت يا انكيدو الحقير ، ساشرب دمك ان حظيت بك ايها النذل !
وما ان تلاشت الافعى في المياه ، حى ظهرت لانكيدو في البئر الذي كان ينام قربه مستريحا من رحلته في البحث على الهة التلول الخضراء ، و عملت معه نفس العمل ، واخبرته ان كلكامش الذي يجلس الان على ضفة الفرات ينتظره ليقتله ، هو سبب دمار اوروك ، بشفطه ماءها من مغارةٍ من مغارات جبال الشمال ، فحول ارض انكيدو الى صحراء قاحلة .
وبهدوء ، انسابت الافعى الى البئر ، و اصبحت من الماضي ، لقد كانت من صنيعة الهة التلول الخضراء .
فهرع انكيدو الى ضفة الفرات ، ليرى كلكامش العظيم رابضا على ركبته وقد ثار الدم في وجهه ، فصاح فيه : انت كلكامش ! ايها الغادر ، يا مجفف التلول و صانع الصحاري ، يا قاتل الغابات ووحوش البر ، انها ساعتك ايها الضخم !
فصاح كلكامش بصوتٍ اجش : من بنا الغادر يا انكيدو ، اولست من افنى جنات سومر بنفخك المغارات في طوروس ؟ الست صاحب الطوفان ؟
فانهال كلكامش على انكيدو بسيفه ، واستل انكيدو فأسه ، و تصارع الاثنان صراعا مخيفا ، وكانت هداهد الالهة تراقبهما و تنقل اخبار الصراع الى التلول الخضراء .
استمر الصراع لعامين ، هما 2005 و 2006 ق.م ، وكان مشهد الصراع رهيبا جدا ، فالخصمان هما الاعظمين في اوروك ، و الاشدين و الاكثرين بأساً .
و بعد ان خارت قواهما ، وجدا نفسيهما منجدلين و صاحيين لتوهما من غيبوبة لم يعرفان امدها ، فنهض انكيدو متوكأً على فأسه ، و شعره اشعث مغبر . و الدماء تسيل من وجهه ، ونظر الى كلكامش الذي جلس هو الاخر ينظر الى انكيدو ، وقد عراه التعب و الانهاك .
وللمرة الاولى منذ نشوب الصراع ، لجأ كل من انكيدو و كلكامش الى حكمتيهما التي ورثاها من ارض اوروك ، فقال كلكامش :
يا انكيدو ، انك خصم فريد ، فانت الوحيد الذي لم اقهره بحياتي ، انكيدو ، هل قمت حقا باغراق اوروك ؟
قال انكيدو : كان يجول ببالي نفس السؤال يا كلكامش ، لكني لا اشك بانك لم تشرب ماء اوروك وتحول ارضها الى صحارى .
قال كلكامش : من اخبرك بذلك ؟
اجاب انكيدو : حية رقطاء ملساء ناعمة .. خرجت من البئر .!
فانتفض كلكامش صارخا : انها نفس الحية التي قالت لي انك سبب الطوفان .. انكيدو ، كم كنا اغبياء عندما تصارعنا لسنتين ! آه يا انكيدو ! لقد كنا لعبة بيد الالهة المقيتة !
صاح انكيدو : كلكامش ، انها ساعة الانتقام ، او تذهب معي لقتالها ؟
وافق كلكامش ، فاغتسلا في الفرات ، وشقا طريقهما الى التلول الخضراء .
فغضبت الهة التلول الخضراء خوفا من اقتراب الندّين ، الذين صارا اقوى ما على ظهر اوروك ، فقررت الالهه اللجوء الى خمبابا ، وحش الارز لحمايتة التلول الخضراء من سيف كلكامش ، و فاس انكيدو الغاضبين .
لم يكن خمبابا وحشا اوروكيا ، بل كان مستقدما - بواسطة الالهة - من الشواطئ البعيدة الغريبة خلف قارة اطلنطس ، كان ينفث النار ، و يصدر الدخان ، و يطير لاذرع عديدة فوق الارض ، وكلفته الالهة بحماية اسوار التلول الخضراء من انكيدو و كلكامش ، عدوي الامس ، اصدقاء اليوم ، لقاء شربه الذهب الاسود من ارض اوروك ، ذلك الذهب الذي يدمن عليه .
نهاية الجزء الاول