الحياة عمارة أفكار , ولبناتها الأساسية أفكار إنسانية , ذات قدرات فاعلة وطاقات وثّابة , من أجل تأكيد دورها وإظهار وجودها , ومشاركتها في التفاعل مع زمنها.
ولا توجد حياة بلا أفكار , وعندما يتم منع الأفكار يتحقق قتل الحياة , أو بناء عمارة الموت.
وفي تأريخ الشعوب هناك أنظمة تبني عمارة موت , وأخرى تبني عمارة حياة.
ويكون الإنجاز الأول بالإستبداد والطغيان , والقمع الجائر للرؤى والأفكار , وتحويل الأوطان إلى مستنقعات راكدة تتعفن فيها المخلوقات.
ويتأكد الإنجاز الثاني بأنظمة ديمقراطية , ترفل بالحرية والفرص اللازمة لتحقيق التطلعات المتدفقة والإرادة الحرة , فتكون الحياة نهر يتدفق وأمواجه تتواكب.
وفي مجتمعاتنا , قُمِعَت الأفكار على مدى القرن العشرين , وحُرمَت الناس من الجد والإجتهاد لصناعة رموز الأفكار , وتأكيد مشاركتها في بناء الإنطلاقة الحضارية المعاصرة للأجيال , حتى تفتت الموجودات , وتسيّدت قوانين المستنقع , وغاب جريان الأنهار , وعمّ الجفاف الفكري والروحي والبيئي , ليحطم أي سبب للبقاء.
وفي محنة الإستنقاع الحضاري المقيم في ديارنا , تفاعلت عوامل كثيرة لكي تمعن بقسوتها وإتلافها لوجودنا , حيث كان لعامل المصالح الإقليمية والعالمية دور فعّال ومدمر .
فبعد الحرب العالمية الثانية خصوصا , تم إقامة مشروع الإستقرار العربي الميت , بمعنى أن يكون العرب جميعا حالة خاملة ها مستقرة , تسمح بأخذ الثروات وتنمية الإتجاهات المرسومة في المنطقة , وفرض الشروط اللازمة لإقامة المشاريع والخطط وإنجاز الأهداف المطلوبة.
وظلت الإرادات الطامعة في وسواس قهري , من أهم أعراضه وعلاماته , أن يدوم الحكم الفردي الإستبدادي , ويُمنع الشعب من إطلاق قدراته وأفكاره , وأن يكون أرقاما وأشياءَ معلبة في صناديق الطغاة والمستبدين , يحركونها وفقا لمقتضيات مصالح الآخرين.
حصل ذلك في جميع الدول العربية , التي تحولت هي الأخرى إلى أشياء كبيرة , يمكن تحريكها وفقا لأجندات المصالح والأهداف , وكان النفط العامل الأكبر في هذا السلوك , إضافة إلى المشروع المعروف , الذي بدأ في نهاية النصف الأول من القرن العشرين , فهذان الثابتان كانا محور القبض على الإرادة العربية , والخط الأحمر الذي يصعب تجاوزه أو الإقتراب منه , لأنهما يمثلان خط الضغط العالي السياسي في المنطقة عموما.
لكن دوران الأيام وتوالي العقود وتراكم المتطلبات , وضع القوى الكبرى في محنة إقتصادية صعبة , مما اضطرها إلى الإقتراب بمنظار آخر , ومراجعة أفكارها ومحاولة الخروج من قيد الوسوسة التي أتلفتها إقتصاديا وأخلاقيا.
وكأن الدنيا تعود إلى بداياتها ,إلى حيث الإنطلاقة الأصوب والأنضج , لتؤكد بأن لابد للشعوب أن تعبّر عن أفكارها , وتبني عمارة وجودها في الحاضر والمستقبل.
فقد أثبتت مسيرة قرن قاهر فتاك , أن الأمم لا يمكن محقها والشعوب لا يمكن سحقها , وأن الضغط يولد إنبعاجات مرعبة ومكلفة جدا , وأن لا بد من توفير الأجواء اللازمة لتحقيق الأفكار الإنسانية في الأوطان.
نعم , لقد أثبتت مسيرة الأوجاع العربية للإرادات الوسواسية , بأن الشعوب تكون أكثر إيجابية وفاعلية في بناء المُثل والقيم الإنسانية النبيلة , عندما يتمكن الإنسان فيها من التصريح بأفكاره , والتعبير عن نفسه بحرية وكرامة.
ووفقا لهذا الوعي الجديد , فأن قوة التعبير إنطلقت بعنفوان وبسرعة كاسحة , لكن بعض عناصر المعادلة الوسواسية لا زالت مقهورة بوساوسها , وغير قادرة إلا على الفعل القهري , الذي يوهمها بأنها ستستريح ويهدأ قلقها وخوفها.
وفي هذا الزمن الفياض , لا يمكن مواكبة الأحداث والعيش فيها والكتابة عنها , لأن سرعتها غير معهودة ومتقدمة على مفردات الإستنقاع والركود.
إنها إنفجار ثوري لا مثيل له في التأريخ, فالشعوب صارت قنابل متأهبة للإنفجار الحضاري العظيم.
فهل سيُسمح ببناء عمارة الأفكار العربية , أم أن إرادة الوسوسة ورعاية المشاريع ستقضي بما ترى وتريد؟!
مقالات اخرى للكاتب