بغداد حبيبة العراقيين , وقبلة العاشقين , ومنطلق الأنوار الفكرية والثقافية والعلمية , ومهماز الصيرورات الأرضية الكبرى , وهي ينبوع التجلي والتجدد , والإنطلاق الفياض في آفاق أكوان الحياة .
وقد أوجدت بشكلها فكرة التفاعل الدوراني الخالد , ما بين قوانين وقيم الوجود الأزلي , ومفردات الحياة الطامحة نحو العلى والبهجة والبهاء.
وبغداد محبوبتنا , وملهمتنا, بألف ليلة وليلة , التي هذبت أذواق الأجيال , وأوقدت خيالهم , وأضرمت مشاعر التوق والهوى في أعماقهم , المتوجة بالأحلام والخيالات الندية الصافية.
وربما كان مجنون ليلى يخاطب بغداد عندما قال:”فإن تكُ ليلى بالعراق مريضة فأني في بحر الحتوف غريق“ .
أما نزار قباني رحمه الله , فقد تفاعل مع بغداد من خلال بلقيس , التي قطفها من الأعظمية وقال فيها : ” بلقيس , كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل , وكانت أطول النخلات في أرض العراق“ .
وهو القائل في بغداد ” مدي بساطي واملأي أكوابي وانسي العتاب فقد نسيت عتابي....عيناكِ يا بغداد منذ طفولتي شمسان نائمتان في أهدابي....لا تنكري وجهي فأنتِ حبيبتي...وورود ما ئدتي وكأس شرابي....بغداد عشت الحسن في ألوانه لكن حسنك لم يكن بحسابي.....بغداد يا هزج الخلاخل والحلي يا مخزن الأضواء والأطياب"
تلك بغداد معشوقتنا وفاتنتنا , التي بُنيت دائرية المدى لكي تبقى أبدا , تتبدى بضفائرها وترنم بفؤادها أناشيد الألفة والمحبة والبهجة والسرور , وهي تصارع المحن , وتقف قويةً بوجه الأعاصير والزوابع والفتن, لتعلن عن بقائها السرمدي في جبين التاريخ , وضاءةً مشرقةً تهتف بالحياة والأمل.
بغداد التي تغربنا عنها , وما فارقتنا أو فارقناها , بل حملناها في قلوبنا وأرواحنا , وتفاعلنا معها بصدق ورغبة جياشة بالمشاعر الإنسانية النبيلة , فهي حبيبتنا جميعا , وغاليتنا التي نشتاق إليها , ونحنّ إلى مساءاتها الهادئة.
بغداد ”يا دجلة الخير يا أم البساتين“ حيث يتهادى النهر الحضاري على صدرها , ويقترب الفرات العاشق لدجلته نحوها , ثم يفترقان في تفاعل جغرافي وتاريخي لا مثيل له فوق الأرض.
وما بين النهرين الخالدين , بدأت حضارات , وتنامت وسقطت , وبدأت أخرى وأخرى , وبقيت بغداد تهزج بصوتها , وتعبر عن نفسها , وتساهم في تحقيق غاياتها السامية.
بغداد ” عيون المها بين الرصافة والجسر, جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري“ , تهذب الأذواق وتصقل المشاعر , وتجعل الإنسان يرتقي إلى مصاف إنسانيته , فيطلق ما فيه صافيا , كزلال مياهها الجارية , وشامخا مسترسلا , كنخيلها الباسق المعطاء المزين بأقراط الذهب اللماعة. وبغداد بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور سنة 762 ميلادية , ووصلت إلى ذروة تألقها في زمن هارون الرشيد وإبنه المأمون , وقد غزاها المغول التتار عام 1258 ميلادية , ففعل فيها من عجائب الخراب والدمار والحريق , ما لم يحصل لمدينة قبلها في التاريخ.
فكانت أعتى وأشرس هجمة همجية في مسيرة العصور البشرية , ومضت تعاني من الحروب , والعديد من الفيضانات منذ ذلك الحين.
بغداد نريدها وتريدنا , وكلما ابتعدنا عنها إزددنا منها قربا وبها تعلقا , وعصف الهوى في أرجاء أعماقنا وجرى في عروقنا , ليمنحنا الشعور الحار بالحياة والمحبة والصدق , والوفاء لتراب الحضارات الإنسانية , ومنابع آفاقها الفكرية والثقافية والعلمية.
ولكل منا ذكريات جميلة في مدينة السلام , عندما كنا نتخطى في شوارعها , ونعبر جسورها , ونقضي المساءات الخلابة على ضفاف أبو نؤاسها , وألحان الموسيقى الشادية تطربنا , وتوقظ فينا كل المشاعر الساحرة الندية.
وأملنا أن نتمتع بأماسيها وشوارعها , كما عاشت في خيالنا , ومراكزها الثقافية والتراثية الأصيلة. فتحية لبغداد الخيرات والأمن والسلام , الساعية إلى محبة الناس أجمعين.