هذا الصباح بتوقيت مدينة بيرث الأسترالية، عندما قرأتُ نبأ رحيلك على صفحة أحد الأصدقاء بموقع الفيس بوك، شجبتُ هذا الصديق بسرّي، لأني ظننتُ أن مزاحه الثقيل معك ليس بوقته، وقد نشر الخبر تماشياً مع الكثير من الذين اعتادوا نشر أخبار كاذبة في أول يوم من نيسان لمداعبة أصدقائهم تحت ذريعة كذبة نيسان، وقبل أن أكتب لذلك الصديق رسالة أنصحه برفع هذا الخبر المظلم، فوجئت بصديق آخر ينشر كلمات تقطر دمعاً عن عروج روحك النبيلة إلى سماوات الله، حينها أيقنت أنكَ ترجّلت عن صهوة القصيدة وتوغلت في مهب دمك النقي إلى أسرار التراب، لكن كيف توقفت أنفاسك يا صديقي العذب معد الجبوري، وكيف يا أبا الحارث خمد نبض قلبك الأبيض إلى الأبد؟ قبل أن ترى نينوى الغالية وقد تحررت من الأسر، لماذا باغتك الموت ولم يمهلك حتى تقرأ قصيدة النصر قرب منارة الحدباء، كنا نريدك أن تبقى حتى تُسمعنا قصص الفجيعة والأسى والرعب الذي رأيته من خفافيش الظلام، يشهد الله وضميري يا صديقي الحنون أن ذكراك كانت ترافقني كلما طالعت شاشة التلفاز متابعاً معركة الموصل، وكنت أسأل نفسي ترى كيف يعيش أبا الحارث هذه المحنة العصيبة هناك، وكيف يقاوم كل هذا الحرمان؟ انقطعت أخبارك بعد حوارنا الحميم على بريد الفيس بوك قبل سنتين، وعلمت من أحد الأصدقاء أن المرض حاصرك مع بلاء الظلاميين ولم تتمكن من مغادرة الموصل، ترى من سيحمل نعشك إلى المقبرة؟ وخلّانك الشعراء تناثروا مثل نجمات بنات نعش في المهاجر، ومن سيرش ماء الورد على جسدك المسجّى ويغرس وردة بيضاء فوق تراب قبرك المضيء، كأني أرى الأمير شموكين يسير خلف جنازتك بجيش جرّار، وأكاد أسمع صهيل خيوله التي ذبحها تضج في مسرى موكبك الجنائزي، وجواريه وزوجاته ينحبَنَّ ويلطمنّ خدودهنَّ ويقصنَّ ضفائرهنَّ على رحيلك الأليم، حتى منارة الحدباء أراها من مهجري البعيد تذرف دمعاً سخيناً على رفاتك الشاعري، يا آخر الشعراء البسطاء، أذكر في مهرجان أبو تمّام الشعري قبل أكثر من خمسة وعشرين مضت، كيف رأيتك تجلس بوداعة مع أناس كادحين حول طاولة واحدة، كنت تصغي لهم بأناة وهم يتحدثون على سجيتهم عن الشعر والحياة؟ وتبادلهم الأنخاب بمحبة النبلاء، وحين جمعتنا مهرجانات المربد الشعري وكانت غرفتك قريبة من غرفتي مع كزار، كنت تمرق علينا آخر الليل بدشداتك البيضاء لتسمعنا قصيدة كتبتها توّاً ولم تدعك تنام، لقد غادرتنا غفلة ولم تفكر مَنْ بوسعه أن يوقف مساكب الدمع من عينيّ عبد الوهاب اسماعيل وأمجد محمد سعيد هذه الليلة؟ بل من يخمد حشرجة الأنين برئة الشعر العراقي على غيابك الموجع حقاً، أنت الذي قال عنك الكبير حسب الشيخ جعفر ذات يوم أن ما أبقى الشاعر معد الجبوري قابضا على راية الشعر، هو قدرته الفنية ووعيه العميق بأهمية الصورة واخلاصه لها. بينما عن ديوانك طرديات أبي الحارث كتب الشاعر المتجدد سامي مهدي.. صار من النادر أن نقرأ شعراً فيه مثل هذا الصفاء، وهذه الحرارة وهذا النبل، الذي نراه في طرديات أبي الحارث الموصلي وأبو الحارث الموصلي هو نفسه الشاعر معد الجبوري.ومعد شاعر أصيل متمكن من أدواته فناًّ وخبرة ويتجلى فنه في هذا الديوان كما تجلى في غيره. كثيرون كتبوا عن شعرك الذي يفيض عذوبة وأصالة، وأكثر منهم مَنْ سلبت قلوبهم بنبلك وتواضعك وصدقك وصفائك، وكنتُ أحدهم، أحببتُ الموصل من خلال شغاف قلبك الناصع ولسانك الدمث الكلام، كنتَ تحلم أن تكون آخر الشظايا في حرب إيران، ولكنها طاردتك إلى مدينتك الآشورية حتى نحرت آخر قصيدة كتبتها، ولذا خسرت رهانك وهذا حال الشعراء الأطياب يخسرون رهانهم في الحياة ولا يربحون سوى عذرية قصائدهم التي ترافقهم حتى الرمق الأخير، ما يؤلمني أن كذبة نيسان كانت صادقة هذه المرة وسلبت من حديقة الشعر العراقي أعذب صوت في عنادلها. وماذا أكتب بعد؟ وأنت الذي تقول: ها أنَذا، أشتَري.. بِجَنَّةِ الصَّمتِ.. جحيمَ الكلامْ
مقالات اخرى للكاتب