لا شك ان قدرة المدرسة في الثقافة وتكوين الاخلاق والتوجيه الاجتماعي محدودة. واننا نحصل على هذه الاشياء من بيئات اخرى غير المدرسة وهي تتكون وتنمو معا مع الحياة. ولكن على فرض ان المدرسة تثقف كما تعلم، فان الناس ليسوا سواء في الحصول على الفرص المدرسية او الجامعية فان منهم من يقتصر على التعليم الابتدائي ومنهم من يصل الى الشهادة الثانوية وعدد الذين يحصلون على التعليم الجامعي محدود.
وتكاد الثقافة تكون عملا فسيولوجيا. فان الجسم لا يطلب الطعام الا عند الجوع ولا يطلب الماء الا عند العطش. وهو ياخذ من الطعام والماء بقدر الذي يحتاج وكذلك الشأن في الثقافة. فان الانسان متى جاز طور الطفولة او الصبا، عرف كفاءته وادرك حاجته الثقافية. وطلبها بالقدر الذي يمكنه ان يهضمه ويمثله. وكما ان الطعام يستحيل شيئا آخر في الجسم غير ما كان عليه قبل ان يهضم كذلك المعارف تمتزج بنفوسنا وتحرك نشاطنا وتبعث طموحنا. كما يختلف تاثيرها من شخص الى آخر لأختلاف الحاجة النفسية عند كل منهم. ومن هنا قولنا ان التعليم عمل فسيولوجي لان له دوره في النفس كما ان للطعام دوره في الجسم.
لكل شاب فترة في حياته تقع بين السابعة عشر والخامسة والعشرين يحس فيها رغبة حارة للأطلاع كأنها الحمى، وقد يسوء استغلال هذه الفترة لان الابوين يكفان ابنهما احيانا من هذا الاطلاع ويميتان فيه هذه اليقظة. ولكن الاغلب ان الشاب يجد في هذه السنين بواعث قوية تطلق ذهنه على الرغم من جميع القيود، للتعرف الى كثير من المشكلات الانسانية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية مما تجعله ينتقل الى التطلع،
اي الى عالم الثقافة.
وفي هذه الفترة يتعود الشاب القراءة حتى تصبح هواية يشغف بها. وفي هذه الهواية يجد من النظريات والافكار ما يعد محوريا في نموه الذهني. فان المعارف ليست سواء، لان بعضها يقع في التربة الذهنية جامدا لا يلقح وبعضها يجد خصوبة فينمو ويمتزج ويتفرع، اذ هو بمثابة البذرة الصالحة للنمو. وبتوالي السنين تتجمع عنده طائفة من الافكار يعتنقها وكأنها المبادئ، يقرّها ويدافع عنها.
ولكن كيف يمكن للشاب ان يعمد الى تثقيف نفسه اذا كان قد ساء حظه، فلم يتعلم التعليم الكافئ في المدرسة ولم يجد الظروف المساعدة للأنتفاع منها ثقافيا.
فنقول له : عليه ان ينتفع من الجريدة اليومية، يقرأها كل صباح كي ينبه ذهنه الى الحوادث الخطيرة، وفي الجريدة مشروعات وحوادث تبعث التفكير عند الانسان العادي. والجرائد طبعا تختلف في النزعة الثقافية ومقدار عنايتها بالعلوم والاداب والفنون ولكن القارئ لا بد مهتد الى ما يلائمه. ثم عليه ان يتدرج من الجرائد الى المجلات الراقية.
ومتى ما فعل ذلك فانه يكون عندئذ قد وصل الى غايته في الثقافة وكأنها البوصلة يتبعها وينشد المعارف ويجمعها، ياخذ منها انواعا ومقادير تأتلف وطاقته ومزاجه ولذلك كثيرا ما ينسلخ الانسان من ثوبه الثقافي ويستحيل شخصا آخر كما تنسلخ العذراء من الخدر وتصير فراشة.
على كل شاب ان يعي باختيار اصدقائه بحيث يكونون من المثقفين او الذين يهوون القراءة حتى يجد فيهم القدوة والمعونة المعنوية حتى يستطيع ان يقارن معارفه بمعارفهم ويبرز منها الحديث النير والمناقشة المثمرة معهم، واسوأ ما يعيق الشاب عن الثقافة ان يختار له اصدقاء عابثين يغوونه الى الملاهي و المفاسد، انهم ليسوا اصدقاء جادين مرشدين يهدفون الى الحياة الكريمة.
مقالات اخرى للكاتب