في اواخر عام 1953 دعت احزاب المعارضة الى مظاهرات احتجاجية ضد سياسة الحكومة ، وقد اراد قادة حزبي الاستقلال والوطني الديمقراطي اشراك الشـيوعيين فيها ، لاستطاعتهم جمع اعداد غفيرة من الناس ولخبرتهم المتراكمة بتسـيير المظاهرات ، وقد حذرهم السيد طه الهاشمي زعيم تكتل الجبهة الشعبية من دعوة الشيوعيين أو اشراكهم في أي مظاهرة ، فقد اعتادوا أن يسايروا بقية احزاب المعارضة للنصف ساعة الاولى من المظاهرة ويرفعوا لافتات الاحزاب المشاركة ، ثم يعملون على قلب المظاهرة لتصبح شيوعية خالصة ويهتفوا بشعاراتهم ويرفعوا لافتاتهم التي اعدوها سلفاً ، وذلك بعد ابعاد قادة المظاهرة من بقية الاحزاب عنها . لم يقتنع قادة الاستقلال والوطني الديمقراطي بكلام الهاشمي ، فهم بحاجة لأعداد غفيرة من الناس لايستطيعون جمعها بسهولة مثل الشيوعيين فاستعانوا بهم ، وحدث ما توقعه الهاشمي فانقلبت المظاهرات ليهيمن عليها الشيوعيون بعد ابعاد الاعداد القليلة التي حشدتها بقية الاحزاب عنها ، وقد تسببت هذه المظاهرات في تحطيم سمعة النظام الملكي امام الدول الغربية ، واظهاره بمظهر العاجز عن السيطرة على الشارع العراقي ، كما تسببت بتأسيس حزب الدعوة في اواخر عام 1957 ، وكانت المقدمة الاولية للتدخلات الامريكية في السياسة العراقية .
عملت هذه المظاهرات الى تنبيه كل من بريطانيا والولايات المتحدة لقوة وصلابة الحزب الشيوعي ، بحيث يستطيع حشد الوف الناس وانزالهم لعدة ساعات الى الشارع ، ووجود حزب شيوعي قوي يهدد مصالحهما النفطية في العراق ، لذا فقد نظرتا بعين القلق للموضوع . وقاد المظاهرات كل من القائد الكردي بهاء الدين نوري والسيد الكاظمي محمد راضي شبر ، وهذا مما اقلق وازعج علماء النجف وخاصة السيد محسن الحكيم ، حيث إن تحول ابناء السادة الى الماركسية والشيوعية هو دق ناقوس الخطر للفكر الديني برمته . اما الغلطة الكبيرة التي تسببت بها المظاهرات فهي احراق مكتب الاستعلامات الامريكي (المركز الثقافي) الواقع يومها في ساحة الرصافي ، فلقد كانت هذه الغلطة اشبه باحراق ذيل التنين النائم مما ايقظه من سباته .
في العام التالي أي 1954 ، جاءنا استاذ برئ اسمه (حنا بطاطو) لأجراء دراسة اجتماعية عن العراق لصالح جامعة برينستون الامريكية ، ثم استمرت دراساته الاجتماعية عن العراق طوال عشرين عام . عمل الاستاذ بطاطو الفلسطيني الاصل والامريكي الجنسية على القيام بسفرات متكررة للعراق ، والغريب في امره إن مديرية الامن العامة (سواء في العهد الملكي أو الجمهوري) كانت تساعده على انجاز مهماته وتفتح سجلاتها امامه (؟؟؟) ، ومن يقرأ كتابه سينتبه لكونه قد قابل الزعيم الشيوعي البارز زكي خيري في سجن بعقوبة في حزيران 1958 ، وقد قابل العقيد رفعت الحاج سري قبل اسبوعين من اعدامه ، فكيف سمحت له السلطات بمقابلتهم ؟؟ ، وماهي الصفة ( الغير رسمية ) التي يحملها لتفتح له الابواب المغلقة ؟؟ .
عندما بدأت الولايات المتحدة استعداداتها لغزو العراق ، كانت لديها كميات هائلة من المعلومات حوله ، فلقد ظل العسكريون ورجال المخابرات يجمعون المعلومات عنه طوال الخمسين عاماً الماضية على الغزو ، وكانت لدى الجيش الامريكي خرائط تفصيلية لجميع انحاء العراق من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب ، وكانوا على علم ودراية بمواقع الجيش العراقي وما تحويه من اسلحة ومعدات ، ولا استبعد أن يكون بعض عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية المختصين بالشؤون العراقية ، قد حفظوا اسماء عشائر العراق وفروعها وبطونها واسماء شيوخها كذلك .
بعد سقوط النظام السابق زعمت سـلطات الاحتلال الامريكي (امام الرأي العام المحلي والدولي) بوقوعها في حالة تخبط وبلبلة شديدين ، البعض شرق وغرب في تفسير مايحدث على الارض ، وللتغطية على هذا التخبط زعمت السيدة كونداليزا رايس بأنها فوضى خلاقة ، في حين كان الامر على العكس تماماً ، فحالة التخبط والفوضى في العراق كانت من ضمن سياق المخطط الامريكي المعد سلفاً .
لقد كانت الولايات المتحدة قد خططت مسبقاً لتدمير العراق ومنع التئام اجزائه من جديد ضمن دولة واحدة ، وكانت مدركة تماماً بأن حل الأمن والشرطة والجيش سيوقع البلد في حالة تسيب وفوضى ، وكانت تعلم كذلك بأن ترك المعسكرات والبنوك بلا حماية سيجعلها عرضة للنهب من قبل انصار النظام السابق واحتمال وقوع الاموال والاسلحة بيد عصابات اجرامية أوخلايا ارهابية نائمة ، ولم تكن الولايات المتحدة غافلة عندما تركت الحدود مفتوحة على مصراعيها ، فذلك مما سيساعد على جذب الارهابيين السلفيين (الوهابية) ويتيح للحرس الثوري الايراني وفيلق القدس من تكوين تنظيمات وقواعد داخل العراق ، وإذا دخل الطرفان الى العراق فأحتمال نشوب الحرب الاهلية بين الشيعة والسنة سيصبح شبه مؤكد .
لقد ارادت الولايات المتحدة منذ البداية تقسيم العراق لعدة دويلات صغيرة ، فمساحة لبنان عشرة الاف كيلو متر ، ومساحة قطر احد عشر الف كيلومتر ، ومساحة الكويت سبعة عشر الف كيلو متر ، بل مساحة الاردن لاتتعدى اثنان وتسعون الف وثلاثمائة كيلو متراً مربعاً ، في حين يعتبر العراق عملاقاً بالنسبة لسواه ، حيث تبلغ مساحته اكثر من اربعمائة وسبع وثلاثون الف كيلومتر مربع ، أي إن العراق اكبر مساحة من المانيا (357,021 كلم) ، ومن ايطاليا (301,230 كلم) . ملاحظة : تم نقل المساحات من ملحق قائمة الدول حسب المساحة التابع لموقع ويكيبيديا .
كان خيار تقسيم العراق ضرورياً بالنسبة للولايات المتحدة لتستطيع السيطرة عليه ، وذلك لكونه يحتوي على اكبر احتياطي نفطي في العالم . في البداية لم تكن لدى الولايات المتحدة صورة واضحة حول اسلوب التقسيم ، لكن كانت الصيغة شيعي سني كردي هي الاسهل بالنسبة لها ، فأدخلت نظام المحاصصة الطائفية الى العراق ، في حين إنه نفس النظام الذي جعل من لبنان دولة ضعيفة كسيحة وعديمة الفعالية أو الاهمية في المنطقة .
لقد قامت الولايات المتحدة بتطبيق المثل الانكليزي (سنعطيه الحبل الذي سيشنق به نفسه) ، فأفضل طريقة لتدمير العراق وتقسيمه هو جلب مجموعة من المتعصبين المنغلقين فكرياً وسياسياً وتسليمهم السلطة ، وذلك لكي يتنازعوا ويتشاجروا فيما بينهم ويطالبوا بتقسيم العراق لعدم قدرة الشيعة والسنة والاكراد على التعايش السلمي ، في حين إن التعايش السلمي سيسود بين معظم افراد الشعب العراقي ، في حالة رحيل هؤلاء السياسيين القادمين من القرون الوسـطى عننا ، ولكي لا تتضح صورة المؤامرة الامريكية المعدة سلفاً ، جعلت صعود هؤلاء المتعصبين يتم عبر صناديق الاقتراع ، في حين إن قانون الانتخاب العراقي قد فصل على مقاسهم تماماً .
استغرقت اوربا قرابة قرنين من المسيرة الديمقراطية المتعثرة قبل أن تعطي صوتاً لكل مواطن ، ففي البداية كان التصويت حكراً على النبلاء والاعيان ، ثم سمح بالتصويت لأبناء الطبقة الوسطى ، وبقى حق التصويت حكراً على الرجال الذين تجاوزوا سن الثلاثين ، ولم تعط نساء اوربا حق التصويت إلا بعد عقود من تطبيق نظام الانتخابات (سويسرا لم تعط حق التصويت للمرأة إلا في عام 1971) . في حين استغرق العراق اقل من سنتين للوصول الى هذا النظام المتطور ، وتقدمنا على اوربا نفسها بحيث اعطينا حق التصويت للزعاطيط والمخبوليين ، فكأننا اعطينا قيادة الشاحنة لمراهق لايتجاوز الرابعة عشر من عمره ، او اعطينا قطعة سلاح لصبي في العاشرة ، واغلب حوادث العنف وظهور المليشيات المسلحة كان بسبب هذه الديمقراطية المزعومة .
لقد كان تطبيق هذا النظام الانتخابي يعتبر كارثة على بلد لم تجرى فيه أي انتخابات حرة ونزيهة منذ عام 1954 ، فلقد اعتاد العراقيون على انظمة حكم استبدادية وشمولية ، وكانوا بحاجة الى خمس سنوات على الاقل من الاستقرار والآمان لأعادة هيكلة الدولة واعادة بنائها ، وبعد استكمال بناء الدولة وجمع السلاح من ايدي المواطنين واعتراف جميع الاطراف بتبعيتهم وولائهم للدولة العراقية وخضوعهم لقوانينها وانظمتها تأتي الديمقراطية ، لا أن نقفز من الاستبداد الى حرية الرأي والديمقراطية .
يجب أن لانخدع انفسنا ونزعم بأن النظام القائم في العراق اليوم هو نظام ديمقراطي ، ومن الدجل المفضوح والضحك على عقول العقلاء أن نقول إن لدينا احزاب سياسية . كان لدينا بالاصل حزب واحد منظم والذي هو حزب البعث ، الذي حكم العراق منذ عام 1968 حتى عام 1978 ، ثم قام الرئيس السابق بأفراغ الحزب من كوادره وقياداته وحوله الى حزب شخصي عائلي ، يهيمن هو واولاده واقربائه عليه ، وما زالت هناك بقايا لحزب البعث غيرت هوياتها وشاركت في العملية السياسية ، وآخرى هاجرت الى سوريا والاردن .
أما بقية الاحزاب والتنظيمات فقد تعرضت للأضطهاد والنفي القسري على يد الامن العامة ، فلم يتبق من جميع الاحزاب العراقية (عدا الكردية منها) إلا خلايا مفككة وتنظيمات مبعثرة ، وعندما عاد المهاجرون بعد عام 2003 لم يستطيعوا لملمة شظايا الاحزاب ، فأعتمدت الاحزاب الشيعية والسنية على الولاءات العشائرية لأعادة تشكيل تنظيماتها الجديدة ، اما الصيغة التي وضعوها للانتخابات والنظام البرلماني التوافقي ، فهي تقارب نظام ديوانية الشيوخ ولا علاقة لها بنظام الدولة الحديثة ، هذا عدا الدستور الملئ بالثغرات والمغالطات واللغو والثرثرة القانونية .
علينا الاعتراف بأن العملية السياسية برمتها كانت تجربة فاشلة ومخيبة للآمال ، وأن العراق سائر نحو التقسيم شئنا ذلك أم ابينا ، وأن الطرف الوحيد الذي يستطيع ايقاف المعارك والحروب الناشبة ومنع التقسيم هو الولايات المتحدة نفسها ، فهي على علاقة جيدة بجميع الاطراف ، وهي لن تمنع التقسيم بدون اقدام الدولة العراقية على توقيع معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة واعطائها ثلاث قواعد عسكرية دائمية على الاراضي العراقية ، وهذا الحل افضل من تقسيم العراق الى ثلاث دول وقيام كل دولة بتوقيع نفس المعاهدة بمفردها .
منذ عام 2007 والخفايا تتكشف والصورة تتضح ، فمن خلال امتناع الجيش الامريكي عن مساندة الحكومة المركزية في قمع الارهاب ، ومن خلال امتناعهم عن تسليح الجيش العراقي واعادة تمرينه ليصبح قادراً على هزيمة المليشيات ، يتبين عدم وجود أي مصلحة للأمريكان في دعم هذا الطرف أو ذاك ، وعندما سئل وزير الدفاع الامريكي (روبرت غيتس) عام 2009 (على ما اظن) عن موعد انسحاب القوات الامريكية من العراق قال بصريح العبارة : لقد مضى علينا ستون عاماً ونحن مقيمون في كل من اليابان والمانيا ، فما هو المبرر الذي يجعلنا ننسحب من العراق ؟؟ ، لقد كانت الرسالة منذ ذلك الوقت واضحة لكن الحكومة العراقية المدعومة من ايران اعطت الامريكان الاذن الطرشة على آمل ان تحل مشكلة الارهاب بنفسها .
المكابرة والعناد والاصرار على النهج الخاطئ لن يوصلنا لأي نتيجة ، ولابد للعراق من الاستعانة بالولايات المتحدة التي تستطيع رفع الكارت الاحمر بوجه الارهابيين ومن يدعمهم ويمولهم من خلف الحدود ، ولكنها لن تتدخل من اجل سواد عيوننا ، فلا بد من وجود مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة ومهمة لها في العراق لكي تنقذه من براثن الارهاب .
واخيراً : منذ زمن بعيد ونحن نكره الولايات المتحدة بسبب وقوفها بصف اسرائيل في كل صغيرة وكبيرة ، وبسبب كون حكوماتها المتعاقبة تتعامل بأستعلاء وعنصرية مع دول العالم الثالث ، وبسبب تأييدها للطغاة والمستبدين الذين يراعون مصالحها الاقتصادية ولو تسببوا بكوارث انسانية لشعوبهم ، وانا شخصياً لو عرضت علي الولايات المتحدة اعطائي الكرين كارت لرفضته ، حيث إن المجتمع الامريكي يفتقد للكثير من المشاعر والاحاسيس الانسانية التي حافظت عليها مجتمعات اوربا الجنوبية خاصة ، ورغم هذا كله لو كنت مسؤولاً في الدولة العراقية لتوجهت مباشرة للتعاون مع الامريكان ووضعت يدي بيدهم ، فالقضية العراقية اليوم صارت مثل بيت المتنبي { ومن نكد الدنيا على الحر أن ترى ـــ عدواً ما من صداقـتـه بـدُ } .
مقالات اخرى للكاتب