لم يخبرني أنه يبيع الأسكيمو بعربة جوّالة عندما كان طفلاً ، لقد عرفت ذلك من قصة نشرتها مجلة الطليعة الأدبية مطلع الثمانينيات ، ربما كانت من بواكير قصصه التي تزخر بوجع إنساني نادر ولمسات طفولية أكثر شفافية من برقع عروس ، فحين تتوفر طفولة معذّبة وتقترن بموهبة واضحة ، فتأكدوا ان هذا الطفل سيصبح كاتباً إستثنائياً أو رمزاً يشار لإبداعاته بالبنان ، لم أتعرّف عليه في مقهى أو شارع عام أو ثكنة عسكرية، إنما أزهرت صداقتنا من خلال الأدب ، ذلك الهم الجميل الذي تورطنا به دون علمنا ، وكل صداقة تولد من رحم الكلمات ومعاناة التدوين من الصعب أن تنتهي مهما حاول الآخرون تدميرها ، أية صداقة صمدت بوجه الحاقدين والحاسدين ، ستجد ان طرفيها كانا متكافئين بكل شيء ، سواء في الموهبة والعذابات والتطلعات والجنون والصعلكة والتشرّد والأحلام التي تبدو مستحيلة ، هكذا جمعتني تلك المشتركات المقدسة مع صديقي المبدع علي حسين عبيد ، وبسبب هذه الصداقة النبيلة تحمّل شرور وفخاخ الآخرين ، لقد فقد الكثير من الأصدقاء نتيجة تمسكه بصداقتي والتي لم يجن منها سوى القلق والمتاعب والخوف ، بل كادت تلقي به في غياهب السجون ، اذكر لحظة وداعه لي في منتصف شهر شباط من عام 2001 عندما حانت فرصة خلاصي من جحيم الحروب والرعب والتهديد والوعيد ومغادرة البلاد ، ان دمعه ظل يشتعل بحدقتيه وصرخ بوجهي وهو يضغط على كفيَّ .. حسن إياك ان تنسى العراق .. شيء واحد وطّد علاقتي بهذا الطفل الذي توجع كثيرا في حياته ، موهبتهُ الأصيلة ، ربما لا يعرف الكثير منكم أن هذا المخضّب بالجراح من جنون رأسه حتى أخمص عبثه ، انه يمتلك مقومات شاعر محترف ويعرف بموازين الشعر اكثر من شعراء أصبحوا معروفين ومشهورين ، اما السرد فهو صنعته التي إستوعب أسرارها ودهشتها ، فظهرت بجلاء مثير من خلال مجاميعه القصصية وروايتيه ، ولعل بعض قصصه كنت شاهدا على مراحل كتابتها ، ومنها قصته كائن الفردوس التي إحتلت فيما بعد عنوان مجموعته القصصية البكر ، في هذه القصة آمنت بقدرته النادرة على تحويل مشهد إعتيادي لا يلفت الأنظار الى نص مزدحم بالجنون والمتعة والواقعية السحرية ، اذ ليس من المعقول ان طفلاً يجلس لدقائق الى مائدتنا في حديقة نادي الأدباء ، سيتحوّل بقلم علي حسين عبيد الى قصة أثارت إعجاب الوسط الثقافي ، ذلك الطفل هو «هيمن» إبن القاص صلاح زنكنه ، وفي زمن الحصار أرغمته ظروف المعيشة الإبتعاد عن الوسط الثقافي لتوفير الطعام لعائلته وقد تعرّض الى هزّة مالية جعلته حبيس منزله ، لكني جاهدت حتى أقنعته بالعودة الى عالم الكتابة ، وبعدها بشهور حصلت قصته نتوء الشيطان على الجائزة الأولى بمسابقة أدبية متميزة متفوّقاً على كتّاب قصة معروفين إشتركوا بتلك المسابقة ، لدى صديقي بائع الأسكيمو خصال إبداعية وإنسانية ومفارقات حرجة من الصعب العثور عليها عند الآخرين ، اذكر عندما رحلت والدته رحمها الله ، خلتُ أن صديقي سيستوعب نبأ رحيلها بيسر ودون منغصات ، لكنه فاجئني بحزن مدمر طغى على كيانه ، حزن عنيف أربكني وشلَّ محاولاتي بإسترجاع شخصيته الوديعة التي عهدتها ، إختار عزلة خطرة وكنت أخشى عليه من الإنتحار ، وحين أرسلت بطلبه لحضور مأتم والدته لأن محافظ كربلاء حرص حضور مراسيم العزاء وهو ينتظر قدومه حتى يقدم له المواساة ، جاءني أخاه بوجه قانط ويده ترتعش وأخبرني أن عليّاً يرفض مقابلة المحافظ ، فلم يكن امامي سوى إخبار المحافظ ان صديقي بوضع مأساوي لا يسمح له بالحضور ، ولما قررت مقاطعة هاني وهيب عندما كان رئيسا لإتحاد أدباء العراق خلال زيارته الى كربلاء لتحشيد اصوات الأدباء اليه في الإنتخابات ، أوكلت مهمة التصدي لوهيب الى صديقي بائع الأسكيمو وينوب عني بصفتي رئيسا لإتحاد ادباء كربلاء ، كان الموقف يحتاج الى شجاعة نادرة لقبول هذه المهمة التي لا يحمد عقباها ، لكن علي حسين عبيد لم يتردد من الدفاع عني امام وهيب برغم انه كان يدرك جيدا ، ان وقوفه معي يعني خسارته الى إمتيازات كثيرة أبسطها حرمانه من النشر في جريدة القادسية ، اجل لم يتخل بائع الأسكيمو عني بالوقت الذي إلتف الآخرون حول هاني وهيب يحرقون البخور ، وفي زمن غادر مثل هذا ، ماعادت هناك صداقات نبيلة ، إنما صداقات مشبوهة ورثة تؤسس على مغانم رخيصة ومصالح مشتركة ، يقيني بإبداع مدوّن الأقبية السرية لا يتزحزح قيد أنملة أو شهقة مظلوم على منصة الإعدام ، صحيح ان علي حسين عبيد إرتكب حماقات مباغتة بحق الصداقة ، لكنها حماقات مبدع ، ربما اثارت غضبي ساعتها ، لكني بعد مرور وقت عليها ، أجدها حماقات جميلة ولابد من وجودها وهي متوقعة من مبدع يختلف بكل شيء عن الآخرين ، أجل أخطاء الأصدقاء هي إختبار حقيقي لمتانة أية صداقة ، فإذا لم تصفح عنها ، هذا يعني أن الصداقة لا تليق بك ، كل المبدعين في العالم .. كتبوا نصوصهم بتحريض من صديق ، ولولا الصداقة لما كانت هناك نصوص إبداعية ، ولم يكن هناك معنى للحياة ، الصداقة هي لوح النجاة الذي ينتظرك دائما عندما تصبح وحيدا في نهاية المطاف ، الصداقة مؤونة المحرومين من السعادة والأمل ، صديقي الطفل بائع الأسكيمو كان يبيع المرطبات للناس حتى يشعرون بالمتعة والسعادة على حساب عذاباته التي لا تنتهي ، ومازال كذلك .
مقالات اخرى للكاتب