لعله من قبيل البديهيات الثابتة اجماع الباحثين في الحقول المعرفية كافة ، على تأكيد مبدأ العليّة (الترابط العضوي) السائد ما بين طبيعة المجتمع المفترض ، في اطار مرحلة تاريخية معينة وأوضاع سياسية محددة من جهة ، وبين أنماط الدراسات السوسيولوجية المعنية بتوصيف ذلك المجتمع من حيث بناه الموضوعية (علاقاته) والذاتية (تصوراته) ، فضلا"عن تحليل سيرورات مكوناته وتعليل مكانزمات تفاعلاته من جهة أخرى . بمعنى ان صخب التفاعلات الاجتماعية ، وضجيج الصرعات السياسية ، وهدير الاحتقانات النفسية ، ودوي الانعطافات التاريخية ، لا تلبث أن تجد صداها وقد انعكس بكامل زخمه على نسيج العلاقات البينية ، وشبكة التصورات العقلية ، وهياكل الكيانات المؤسسية ؛ اما افصاحا" عنها وتبصيرا"بها ، بحيث يتاح للفاعلين الاجتماعيين فرصة تلطيف حدّتها ، وان أمكن توظيف تداعياتها ، بما يجنب المجتمع المعني عواقب مفاقمة مشاكله واستفحال أزماته من جهة ، وتفعيل قدراتهم ، من جهة أخرى ، لتقليص هوامش التناقضات ، بلّه المفارقات التي تعج بها قنوات الأتصال ما بين الواقع الكائن والطموح المراد له أن يكون . واما قمعا"لها وتعتيما"عليها خشية الايحاء بتآكل شرعية الأنظمة وانكشاف لا مشروعيتها ، ازاء التحديات التي يطرحها الواقع على صعيد متطلبات الداخل ، وتفرزها التجربة على مستوى توجهات الخارج . وهو الأمر الذي يرحج أن يفضي – عاجلا"أم آجلا"- غزوها (= التحديات) تلك الفراغات المستديمة في نسق السلطة ، واستيطانها تلك المفاصل الضعيفة في بنية النظام ، وتحويلها ، من ثم ، بالتراكم والتصادم الى ألغام موقوته تنذر بتقويض أسس ذلك النظام وتشظي قواعد تلك السلطة ، والأمثلة الواقعية على ذلك غزيرة لحد التخمة . والحال انه اذا ما اعتمدنا هذه المقاربة المنهجية كمرشد و / أو دليل للوقوف على صيغة الحراك / التفاعل الجدلي بين واقع المجتمع العراقي الموسوم بالجيشان السياسي والفوران الاجتماعي والاحتقان النفسي والفلتان القيمي من جانب ، وبين حصيلة ما تمخض عن حقول الدراسات السوسيولوجية من صياغات نظرية لسبر أغوار السيكولوجيا الاجتماعية ، وما أسهمت به من اجتراح مقاربات منهجية لتقنين عوامل الفوضى واللامعيارية من جانب آخر ، فاننا سنصاب بخيبة أمل كبيرة ان لم تكن صدمة حادة . ذلك لأنه بمقدار ما تزداد وتائر اضطراب الواقع وتتعمق شروخ المجتمع ، بمقدار ما تنأى تلك الدراسات عن التورط في البحث عن الأسباب والانخراط في التفاصيل ، مؤثرة العوم فوق سطوح الظواهر ، والتنقيب عند ضفاف الوقائع . ولهذا فهي غالبا"ما تبدو عاجزة عن مجاراة الواقع فيما يطرحه من اشكالات وما يرشح عنه من معضلات ، بحيث ان جلّ ما تقدمه من حلول وما تقترحه من معالجات ، لا تخرج عن كونها ردود أفعال عشوائية ، لا ترقى الى مستوى الحالة أو الحدث ، نتيجة لافتقارها ليس فقط الى الأصالة الفكرية والابتكار المنهجي فحسب ، بل واخفاقها في تشخيص ما يمور في رحم المجتمع من ارهاصات وما يستحوذ على مكوناته من آمال وتطلعات . الشيء الذي دفع بالعالم السوسيولوجي الشهير (بيار بورديو) الى القول بأنه في (( كل مرة لم يع عالم الاجتماع المسألية (= الاشكالية) التي يضمنها في أسئلته ، يمنع عن نفسه فهم تلك التي يضمنها مجيبوه في أجوبتهم )) . ولعلنا لا نخطئ حين نعتقد بأن هذا التشخيص الصائب ينسحب ، بطبيعة الحال ، على أغلب الباحثين والأكاديميين المعنيين بهذه الضروب من الأنشطة المعرفية . وبرغم سخاء المجتمع العراقي فيما يشكله من أرضية – تكاد أن تكون بكر – تصلح لأن تكون منطلقا"لمختلف الدراسات السوسيولوجية والانسانية الباحثة عن الجديد في الطرح المعرفي والمبتكر في التناول المنهجي ، فضلا"عن ثراء معطياته فيما تبيحه من جرأة في نقد الأوهام العنصرية ، وتعرية الأباطيل المذهبية ، وفكفكة السرديات الخرافية . فقد استمرأ اصحاب الشأن – باستثناء قلة آثرت بثّ لواعجها والافصاح عن همومها عبر المواقع الالكترونية – حالة التلقي السلبي لكل ما يطرأ في بيئة المجتمع العراقي من تغييرات في سلم القيم ، وتحولات في مسار السلوك ، وانزياحات في توجهات الولاء ، بحيث ان آلية العلاقة التي افترضنا وجدودها بين خصائص مكونات الواقع وطبيعة الاستجابة الادراكية لها ، أضحت تعمل باتجاه واحد ؛ مخرجات في حالة من الانثيال والتدفق ، ومدخلات في حالة من الانكماش والترقب ، مما استتبع أن يستهلك المجتمع ، عبر انتاج واعادة انتاج دوامة تناحراته وصراعاته ، خزين طاقاته وذخيرة قدراته دون جدوى من جهة أولى ، واستمرارالدراسات السوسيولوجية حبيسة الحلقات المفرغة من التكرار للمعلومات المفبركة ، والاجترار للطروحات المزعومة من جهة ثانية ، وحرمان الأفراد والجماعات من فرص اغناء معارفهم وتوسيع مداركهم وتصويب معتقداتهم وتهذيب علاقاتهم من جهة ثالثة . ومما يزيد الجفوة ويعمق القطيعة بين طرفي المعادلة ، هو غياب الادراك الواضح وانعدام الفهم الصحيح لطبيعة الاختلاف النوعي القائم بين عناصر الكيان الاجتماعي ومقومات الواقع السوسيولوجي ، من حيث طابع الاستاتيكية النسبية التي يمتاز بها الأول والديناميكية المستمرة التي يتحلى بها الثاني . ذلك لأن معطيات كل منهما (( تكمن – كما لاحظ الباحث والأكاديمي فردريك معتوق – في كون الأولى صادرة عن (تصور مسبق) . أما الثانية فتصدر عن (تصور لاحق) ، وهو لذلك ، الى حدّ ما ، تصور مركب من الناحية العملية )) . ولعل من أبرز عيوب الدراسات السوسيولوجية التي كان شاغلها الوضع العراقي ، شروعها في طرح القضايا وتحليل الاشكاليات من منظورات مغايرة وافتراضات مفارقة ، بحيث تلزم الواقع المحلي / الوطني الامتثال بين شقي رحى : ام بالخضوع لسساتيم نظرية واجتهادات فكرية تبلورت
كاستجابة لأوضاع اجتماعية مختلفة وسياقات تاريخية متباينة . أو الانصياع لمرجعيات فرعية ( اثنية ، طائفية ، قبلية ، جهوية ) ، نشأت في كنف ظروف مأزومة سياسيا"، ومتشظية اجتماعيا". ففي الحالة الأولى يدخل الواقع في نزاع مع النظرية الدخيلة عليه ، مستنفرا"كل عناصره ومجيشا"كل مكوناته لكي يلفضها ويسقط رداء الموضوعية عنها ، وهو الأمر الذي يسوقها للوقوع في أزمة بنيوية تستدعي مراجعة فحص الأصول واعادة تأويل الأسس ، مثلما حصل مع الكثير من النظريات الكبرى في تاريخ الفكر الاجتماعي ، وما أزمة النظرية الماركسية الا دليلا"ساطعا"على ذلك . وأما في الحالة الثانية ، فلا يلبث الواقع أن يثأر لنفسه من تلك المحالات البائسة التي تستهدف افقار غناه واختزال ثرائه ، لأجل تقسيم وحدته وتقطيع أوصاله على وفق مقاساتها الايديولوجية الجزئية وتطلعاتها السياسية الظرفية . وهكذا ولغرض تصحيح المسار الخاطئ لتلك الدراسات وتقويم اعوجاج علاقاتها مع مصدر كينونتها (= الواقع ) ، فانه من الضرورة بمكان على أرباب الفكر الاجتماعي أن يمارسوا منهجية (القطع السوسيولوجي) التي من فضائلها الزام الباحث تعويد ذهنيته على افتراض مسافة بين الواقع الموضوعي المراد دراسة خصائصه واكتناه تفاعلاته من جهة ، وبين تصوراته الذاتية ومسبقاته الايديولوجية التي غالبا"ما تحاول تفسير العام من منظور الخاص والكل من منظور الجزء والمعاش من منظور المتخيل والواقعي من منظور الافتراضي . بحيث لا تأتي الحصيلة مطابقة – وهذا محال بطبيعة الحال – بين الوجود والوعي ، بين الواقع والفكر ، بين الممارسة والنظرية ، وانما تكون أقرب الى الحقيقة منها الى الوهم وأدنى الى الملموس منه الى المجرد .
مقالات اخرى للكاتب