لم يتحول صدام طيلة تربعه على كرسي السلطة الى رجل دولة، فشخصيته وتربيته لا يؤهلانه لذلك. ان ميزة رجل الدولة الالتزام بالقانون، والتقيد بالنظام الذي ينسجم والتعريف القانوني للدولة، ولا يهم ان تكون الدولة جمهورية او ملكية او مشيخة او امارة.
عندما سيطر صدام على السلطة تشوش معنى الدولة وضاع مفهومها القانوني واصبح صدام هو الدولة و الحكومة.
لقد تحول الى حاكم مطلق وليس الى دكتاتور، فالدكتاتور ينفرد في الحكم ويفرض رأيه على الاخرين، وحقيقة فرض الرأي تعني فرضية واحتمالية وجود اراء مغايرة ومخالفة، بينما الحاكم المطلق لا يسمح بالاختلاف. فاراء صدام كانت تفرض على انها كلية الصحة وكلية الالزام.
لا نعتقد ان صدام حكم العراق بعقلية الدكتاتور، انما بعقلية رئيس العصابة، فهو وشرطته وجيشه وحكومته كانوا عبارة عن عصابة كبيرة شرسة دموية سيطرت على ملايين الناس وساقتهم الى حتوفهم رغم انوفهم.
عصابة صدام كانت هي الحاكمة حتى في زمن احمد حسن البكر، فمفهوم الدولة العميقة او ما يسمى بالتركية derin devlet الذي لطش حسن العلوي فكرته وممفهومه واستخدمه عنوانا ومحتوى لكتابه دولة المنظمة السرية، كان هو حقيقة الحكم طيلة حكم البعث.
الدولة العميقة تعني مجموعة من التحالفات داخل النظام السياسي وتتكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات (المحلية والأجنبية)، والقوات المسلحة والأمن والقضاء والمافيا. فلا يفلت من بطشها وسيطرتها اي مفصل من مفاصل الحكومة والدولة.
ورغم ان اردوغان شن هجوما على مفهوم الدولة العميقة، الا انه اسس لدولته العميقة الخاصة به، حيث تدخل بالقضاء والعسكر ونشر انصاره وتوابعه في كافة مجالات الدولة للحكم وفق ما ترتأيه عصابات الاخوان المرتبطة بالاستخبارات العالمية .
وفي عهد الاخوان المسلمين الذين حكموا مصر، لمدة سنة كانت هناك عصابة عالمية اسلامية هي التي تصرفت بشؤون الدولة المصرية ايام حكم المخلوع محمد مرسي، بما تقتضيه مصالح هذه العصابة وليس بما تقتضيه دولة مصر.
في حالة التضاد والتناقض بين شكل الحكم وجوهر الحكم عادة ما يلجأ الايدلوجيون الى اتباع تنظيم الدولة العميقة للسيطرة والتخلص من المعارضين باستخدام التصفيات او تسخير القانون والقضاء للخلاص منهم.
في عراق اليوم، حيث التناقض الحاد بين شكل النظام الديمقراطي، وجوهر الحكم المبني على الايدلوجية الدينية وعدم التقيد بالانظمة والقوانيين لا نعتقد باننا سنكون على خطأ اذ ما قلنا بوجود الدولة العميقة، او العصابات العميقة لتعدد التنظيمات السرية التي تسير العراق وفق اجنداتها وبما يخدم مصلحة اهدافها الايدلويجة وتبعياتها الاسلامية.
ان ما نراه في العراق هو صراع بين هذه العصابات السرية حيث تدور حربا في الخفاء بين ممثلي هذه العصابات على المسرح السياسي والعسكري والاعلامي والديني، كذلك تدور حربا غير معلنة بين مرجعيات متنافسة او متضاربة مذهبيا او عقائديا وطائفيا كما هو الحال في الحرب الباردة بين المرجعيات السنية اوالشيعية وكذلك بين مختلف الاجندات الاقليمية.
ان الصراع الاخطر ليس ذلك الذي يبرز على السطح بين المليشيات او المجاميع الارهابية، فهذه ليست سوى بيادق تحركها ايادي خفية على رقعة شطرنج المناطق الملتهبة العراقية، اننا نقصد تلك الحرب بين كبار الرؤوس العراقية وغير العراقية، التي تتحكم على مراكز مهمة في السلطة وتحت تصرفها اموالا طائلة وتملك القدرة على التأثير على قطاعات واسعة من الناس.
اننا نعتقد ان الاتهام الذي وجهه مكتب القائد العام للقوات المسلحة اي المالكي ضد النائب حاكم الزاملي بطبع 5000 هوية مزورة باسم لجنة الامن والدفاع ياتي ضمن الصراع بين هذه العصابات وليس حرصا على تطبيق القانون والتقيد به.
اذ ان القانون لا يفترض التشهير بل التطبيق بضمان الحقوق القانونية للمتهمين. فلو لم تكن غاية مكتب القائد العام للقوات المسلحة التشهير، لما نشر الاتهام على صفحات الجرائد وأمر باذاعته ضمن نشرات اخبار فضائية العراقية ولأكتفى بالاجرائات القانونية المعلنة. وترك حرية نشر الوقائع للاعلام.
اذا كان صدام حول العراق الى وكر وحكم بعقلية رجل عصابة، فاننا على مشاهد تحول العراق الى جامع وحكمه بعقلية الروزخون.