لم يبرح يتردد ، في أروقة العلوم الاجتماعية وحقولها الاكاديمية ، صدى فكرة ان السياسة هي بالتعريف علم السلطة ، وتحديدا"سلطة الدولة ونظامها السياسي . ولكي تبلغ هذه السلطة الشأو الذي يمنحها تلك الهيبة السيادية ويمحضها ذلك الاعتبار المؤسسي ، لابد أن تحظى بقدر كاف من التبرير الذاتي والتسويغ الموضوعي ، الذي غالبا"ما يجري التعبير عنه بصيغة ( الاختلال ) في علاقات القوى و ( الاعتلال ) في تجانس الارادات ، لاسيما بين من يحكم ( ذات السلطة ) وبين من يحكم ( موضوع السلطة ) . بمعنى ان فعل السلطة يشترط لكي يتحقق وجود طرف يصدر الأوامر ويشرّع القوانين من جهة ، وطرف ينفذ مضمون الأولى وينصاع لروح الثانية من جهة أخرى . على ان هذه العلاقة القلقة والملتبسة تحتاج – لضمان استقرارها وحسن أدائها – الى جملة من الضوابط والالتزامات التي يعول عليها لترسيم الحدود ما بين الحقوق والواجبات لكل منهما على الآخر ، وتعيين التخوم ما بين السلطات والصلاحيات لكل جهة حيال الأخرى ، والا استحال الأمر بينهما الى ضرب من التكالب الشرس والفوضى العارمة . وهو الأمر الذي يفسر لنا سرّ تمتع الأنظمة الديمقراطية في العالم الغربي بحالة الاستقرار السياسي ، وامتلاكها القدرة الذاتية للتغلب على كل ما تفرزه الجدلية الاجتماعية من أزمات طارئة ومشاكل عرضية ، تتمخض عن اختلاف المواقف وتباين التوجهات . واذا ما توخينا مضاهاة المعالم البارزة لهذه الظاهرة الصحية مع ما أفرزته تجربة العمل السياسي في العراق من تداعيات ومفارقات ، لاسيما مرحلة ما بعد السقوط حيث تخلعت بناه وتشظت مكوناته وتضعضعت قيمه ، فان الحصيلة المستخلصة ستحملنا على تبني قناعات سلبية مفادها ؛ ان وسم النظام السياسي القائم بالطابع الديمقراطي والنزوع العقلاني ، هو من قبيل الزعم المبالغ فيه الذي يندرج ضمن مساعي الحكومة الحالية لتسويق خطابها وترويج برامجها ليس الا . هذا أولا"، وثانيا"؛ ان أية جهود تبذلها القوى السياسية النافذة – مهما كانت النوايا التي تؤطر أنشطتها – لتخطي مظاهر التشتت في المواقف والتشرذم في الولاءات ، سيكون مصيرها كمن يصرخ في واد مقفر . وثالثا"؛ إن حالات الفساد المالي والافساد الاداري التي ألفنا وجودها كبؤر خفية مرشحة لأن تتحول الى ظواهر مستشرية تنخر أسس الدولة وبنى المجتمع . ذلك لأن كل من واتته الفرصة من أطراف العملية السياسية ، ليتبوأ الصدراة في دائرة صنع القرار وادارة دفة الشأن العام ، لم يلبث أن انساق خلف هواجس الاستحواذ وانصاع لدوافع الهيمنة ، لا في شؤون الدولة وخيارات السلطة فحسب ، بل وفي الحلقات والمستويات التكميلية ذات الطبيعة الادارية والفنية الصرف . وهو الأمر الذي أربك مسار النظام السياسي ، وعطل آليات الحراك الاجتماعي ، وقوض برامج الأعمار الاقتصادي ، وأفشل عمليات الاحياء الثقافي . صحيح ان المسار السياسي لا يستغني عن المسار الاداري من حيث الترابط الوظيفي والتفاعل البنيوي بين رهانات الأول سياقات الثاني ، بيد أن الجمع بينهما في اطار واحد والتعامل معهما من منظور متماثل ، حري به الحاق الضرر بكليهما ، ومن ثم ، تلغيم المشروع الوطني بالأزمات المستديمة والانفجارات المتكررة . لاسيما وان لكل من تلك الأطراف برنامج سياسي يسعى لتنفيذ بنوده بصرف النظر عن سلامته الوطنية ، ومرجعية إيديولوجية يروم إشاعتها بصرف النظر عن ملائمتها الاجتماعية ، وقاعدة حزبية يعمل على تحقيق مصالحها بصرف النظر عن ضوابطها الأخلاقية . بحيث إن النظام السياسي سيتحول – ان لم يكن تحول بالفعل - الى نظام للملل والنحل ، بدلا"من صيرورته بوتقة وطنية لتوحيد الجماعات وصهر الولاءات ، وان الدولة ستنقلب – ان لم تكن قد انقلبت بالواقع - الى دولة رعايا وتكتلات بدلا" من تحولها إلى دولة مواطنين ومؤسسات .
مقالات اخرى للكاتب