في سبعينيات القرن الماضي وذات ظهيرة باردة على جبل سماوي أسمه ( كورك ) في شمال البلاد التي انجبت الرصاصة والوردة في رحم واحد ، حيث لم يكن بمقدور عجلات الأورال والزيل العسكرية الوصول الى الربايا المواجهة لمنطقة حاج عمران ، وعلى الجنود الترجل منها وصعود حافلات حيوانية صنعتها مصانع فولكا الروسية للسيارات يسموها الجنود بغال الزيل .
في هذه الظهيرة عندما كنت اتمتع بشمس الشتاء وأقتفي أثر الذكريات في افق يذهب بي الى قرية المساعدة في عمق الاهوار حيث المدرسة التي عُينت بها ، وخيال افتراضات احلامنا الاوربية وتقبيل ممثلات السينما من شفايفهن ، وحيث يصعقك البعوض والحرمس حين يعيدك الى الواقع الحقيقي وانت تملأ صدرك بعفونة الاسماك المقتولة والطافية على الماء . وبالرغم من هذا سر جمال تلك الامكنة انها قارة من الاحلام وجنة متخيلة في رغبة المعلمين ليقضون صيفهم في باريس.
لكنهم دعوني الى خدمة الاحتياط ، وتبخرت باريس واسطنبول وعربات قطار طوروس ولم يبق سوى صورة البغال الثلاث وهي تصعد ببطيء صوب مقر السرية فمسكت فضولي لأن البغال اتت في وقت لااحد يتوجه الى سريتنا المنعزلة في الطرف القصي من كورك.
، , ومن يقودها ثلاثة واحد من مقر الفوج واثنين غرباء جنود غرباء وليسوا من سريتنا ، وحين وصلوا ، شعرت بالغرابة عندما عرفت انهما اخوين اتيا نقلا الى سريتنا وكنت انا اول من استقبلهم وقلت لهم انكما محظوظين عندما نسبتما الى مكان واحد ولا ادري لماذا ساقوكما في وقت واحد ولا يبدو لي انكما توأمين .
ضحك احدهم وقال :الم تقل انه حظنا الجميل.
لم افهم خبايا عبارته ، ولاني اشتغل في قلم السرية كوني الخريج الوحيد فيها ، لفت انتباهي اسم الجندين .وهما رضا ملك شاه وعلي ملك شاه .واقتربت مع اسميهما سبب ارسالهم الى هذا المنفى ، وبمرور الايام صادقتهما واطمئنا علي بعدما اصبحنا ثلاثة خريجين في السرية واقترح امرها ان ينسب الاثنين معي في قلم السرية إلا ان كتابا سريا جاء من استخبارات اللواء منع امر آمرالسرية من تنسبيهما معي بالرغم ان رضا كان مهندسا يعمل في الشركة العامة لانتاج الزيوت فيما يعمل علي صيدليا في مدينة الطب وهما من سكنة مدينة الثورة حيث استغرب امر السرية وقال المدينة صنعها الزعيم عبد الكريم قاسم للفقراء وعندي في سريتي ثمان جنود منها .افضلهم اكمل المتوسطة .واحدة من مفاجأت حياتي العسكرية ان تأتينا كفاءات من مدينة الثورة ولكن لااعرف لماذا اعترضوا على تنسيبكم الى القلم ، ثم همس : لو كنتم شيوعيين او حزب دعوة لتم اعدامكم فورا . لكن الامر الثالث هو ما يشغلني واريد ان اعرفهما منكما ان كنتم صادقين؟
قال علي ضاحكا :سيدي نحن من عجم مدينة الثورة .
قال امر السرية :انا اعرف ان اغلب سكان الثورة من عرب الجنوب وفيها حيا للاكراد ايضا .ولم اسمع ان فيها عجم.
قال رضا :هكذا صنفتنا الدولة ؟
قلت :وهل انتم عجم حقا ؟
قال رضا كلا نحن اكراد افيلية واصلنا من خانقين.جدي نزح الى بغداد بعقوبة ادارية بعد ان كان باش كاتب في القضاء ، وكانت لديه صورا اصلية التقطها مع الشاعر الهندي الكبير طاغور عند مروره بخانقين عبر النقطة الحدوية في خسروي قادما من الهند عبر ايران الى بغداد ،لكن قائمقام القضاء أصر على اخذها لانها كما يعتقد ذات يوم سيصبح لها ثمنا باهضا. فرفض أبي وحدث بينهما تلاسن انتهى بصفعة من جدي على خد القائمقام.
قلت : ولماذا انتما هنا سوية والدولة تحتاج الى خبراتكما وهي تعفي الخريجين من الخدمة؟.
اختصر رضا القصة بأنهما من ضحايا قرارت التسفير واسقاط الجنسية عن اؤلئك الذين ليس لديهم شهادات التبعية العثمانية واعتبرتهم الدولة في اثناء خلافها مع شاه ايران على انهم من التبعية الايرانية وقامت بتسفيرهم عبر المنافذ الحدودية في مندلي وخانقين وزرباطية والشلامجة .وكان معظم هؤلاء المسفرين مولدين في العراق أب عن جد والكثير منهم هم اكراد افيلية وليسوا من الاصول الايرانية لكن الدولة افترضت هذا ، سفروا عوائلنا واقاربنا وابقونا نحن بطلب من دوائرنا لحاجتهم الماسة الى خبراتنا ، لكناحد المسؤولين وافق على استثنائنا او تأجيل ترحيلنا بشرط ان نخدم العسكرية لعام وفي مكان فيه حرب لنثبت للوطن ولائنا كما قال .وربما تعمدوا ان نكون نحن الاثنين في هذا المكان.
قال امر السرية :مادمتم انتم من الاكراد الفيلية اذاً ستوجهون بنادقكم صوب ابناء جلدتكم من الاكراد .( العصاة ) . الايرانيين ايضا امامنا لكننا لانتراشق معهم سوى بالمدفعية بين الحين والآخر . تلك معضلة بالنسبة لكم.
قال :رضا سيدي نحن اتينا لخدمة العلم .واي كان فهي الجندية وتلك اوامرها.
ادركت سر اجابة رضا ، لأن كتبة التقارير السرية كثيرين .
همست له :لاتخشى من شيء امر السرية من الكوت وانا من الناصرية.
قال رضا :وانا من مدينة الثورة.
لاادري كيف عرف بقية الجنود سبب تنسيبهما لسريتنا .ولا اعرف من اشاع هذه التسمية في السرية حين يشار للاخوين علي ورضا فيقال عنهما ( عجم الثورة ) فكانا ينزعجان جدا من هذه التسمية لكنهما امتلكا روحا طيبة ومتسامحة وخالية من عقد الجنود الاميين ورضيا على مضض تلك التسمية التي صار بعض الجنود يجاهر فيها بالمنادة اثناء المزاح .ليسأل رضا : رضا بالله عليك مالفرق بين ثوم العجم وثوم الثورة .
فيرد رضا :الاول يصبح معه الطرشي لذيذا .والثاني اما يسفر الى ايران او يجيء هنا ليقابل جهرتكَ كل صباح .
يضحك الجميع ونمضي يومنا نيام او تحضير الطعام ، فيما يتوزع الليل على نقاط الحراسة خوفا من من رصاصة برنو يحملها في بندقيته متمرد كردي يراقب جنود سريتنا عبر ضوء القمر او بريق النجوم من الشكفته التي لاتبعد سوى ميل عن اول ربيئة حراسة في سريتنا الثالثة الفوج الاول اللواء 36 مشاة.
ذات يوم نزل رضا لجلب الماء من نبع يقع في الوادي القريب ، ولأنه ينزل لأول مرة لم يتبع الطريق النيسمي الواصل الى النبع وداست قدمه على لغم ارضي ليموت بحزن انه فارق اخيه الذي ذكرنا نحيبه بنحيب من يموت خارج وطنه .
قال امر السرية بأمكان علي أن يذهب بأخيه الى مثواه الاخير بعد ان تكملوا اوراقه . وكلفني ان اكون مع علي لحين ايصال جثمانه الى النجف .
رافقت علي مع نعش اخيه . لنواجه معضلة نقل الجثمان من مستشفى اربيل العسكري الى بغداد عندما طلب منا النائب الضابط المسؤول عن ترحيل جثامين قتلى الحرب هوية الاحوال المدينة للقتيل رضا . فأخبره علي انه شققيه وان الحكومة سحبت منهما هوية الاحوال المدنية وكل الاوراق الثبوتية .
عندها رفض النائب ضابط توقيع اوراق ترحيل النعش ، واخبر الضابط المسؤول وبدوره ايد قرار النائب ضابط لانهم لايرحلون الجثث المجهولة.
قلت للضابط : سيدي هو ليس مجهولا وهذا كتاب من الوحدة يؤكد استشهادة بلغم اثناء الواجب الرسمي .
قال الضابط :اوراق الوحدة ليست صك غفران بأمكانك طبعها بسوق القرطاسية في اربيل وختمها .لكن الجنسية هي صك الفغران.
قال اخيه وهو ينتحب:ما الحل ؟
قال الضابط :نبقيه في الثلاجة لحين مخاطبة مقر الفرقة وبدورها تخاطب وزارة الدفاع .ونرى ماذا يقولون .
قال علي :هذا يعني ان اربعينية اخي تنتهي وربما سنويته وهو في الثلاجة؟
قال الضابط بدون اكتراث :وربما اكثر.
قلت لعلي : لماذا لانعود الى وحدتنا ونخبر مقر اللواء وهم يتصرفون .
قال :لن افعلها واترك جثة اخي وحدها في الثلاجة.امي رحمها الله قبل تسفيرها امنته عندي لن اخون الامانة .
سأبقى في اربيل حتى لو دخلت هروب.
رأيت اصرارا كبيرا في عينيه . وعدت الى السرية لاخبر الامر بما جرى.
ما فعله علي في الايام اللاحقة وقد مل انتظار الكتاب القادم من بغداد أنه ذهب الى احد اقاربه في مدينة اربيل واتفق معه على تهيئة خطة لسرقة جثة اخيه والذهاب بها الى النجف.
اخبره اقاربه بقوله :قد نستطيع سرقتها من ثلاجة المستشفى برشوة الفراشين ولكن الذهاب بها الى النجف من الصعوبة ,ندفنها هنا في اربيل .
رفض علي المقترح وقال :نعبر بها الحدود وندفها هناك قرب قبر امي التي توفيت ما أن عبرت الحدود ودفنت في السيدة معصومة.
رد اقاربه :يابه هاي اصعب من الذهاب بها الى النجف .
ولكني سافعلها إن اخرجتم جثمانه من الثلاجة.
اتفق علي مع سائق تركتور يوصله الى منطقة الحاج عمران من خلال ممرات وفتحات ليس بها ربايا وحمل نعش اخيه وعبر بها الحدود وقد ساعده الجو البارد على عدم تفسخ الجسد.
ارسل لي رسالة شكر وتحية بيد سائق سيارة الحانوت .ولأنه يثق بي كتب لي عن خطته ...
ولا ادري إن كان قد وصل بالجثة ام لا ....؟
ولكن بعد مرور عشرات الاعوام على هذه الحادثة ...شاهدت لافتة انتخابية في احدى مداخل مدينة الثورة تعلن عن مرشح انتخابي اسمه علي ملك شاه .
قلت مع نفسي ضاحكا : ربما لايعرفني الان ، ولكن المهم عاد عجم الثورة ليعيشوا في مدينتهم.
مقالات اخرى للكاتب