مثل كثير من العراقيين، أعتقد أن مدن البصرة، وبغداد والموصل هي المدن المؤسسة للعراق المعاصر. ويمكن للبحث التفصيلي أن يقودك لمدن أخرى، مع ذلك، تبقى المدن الكبرى، والمدن المحيطة بها، هي التي انتجت أبرز نخب العراق في ميادين مختلفة.
وبنظرة سريعة لهذه المدن، اليوم، تكتشف: البصرة، التي يعرف العالم أجمع أنها واحدة من أغنى بقاع الأرض، تزاداد نسب الفقر فيها بطريقة ملحوظة، وتتراجع الصورة المدنية التي ميّزتها لحساب صورة وافدة، مؤسية ومؤلمة. تنشط فيها العشائرية، فيما صور القادة الدينيين تنتشر في كل مكان.
أما بغداد، فهي مركز الوجع الحقيقي. ولقد قلنا فيها الكثير.
تبقى الموصل، التي تقول الأنباء الواردة منها، انها تحوّلت إلى مدينة أخرى. أجزاء كبيرة من الموصل تخضع لسلطات التنظيمات الإرهابية، وأجزاء صغيرة أخرى، خاضعة لسلطات البيشمركة، أما الجيش العراقي، المركزي، فهو يسيطر على أجزاء بسيطة، وتقع خارج المدينة، بشكل أساس.
لا يمرّ أسبوع دون أن توافيك الأنباء بخبر مأساوي من الموصل، وسأنقل لك بعض العناوين التي نشرت في يوم واحد، فقط: اعتقال أربعة مسلحين بتهمة الارهاب وضبط عبوات ناسفة جنوب الموصل، نجاة قائممقام قضاء تلعفر من محاولة اغتيال بانفجار عبوة ناسفة غربي الموصل، مقتل وإصابة 35 شخصا بينهم نساء وأطفال بانفجار سيارة مفخخة قرب سوق في الشرقاط، مقتل واصابة اربعة موظفين في مبنى محافظة نينوى بهجوم مسلح شمالي الموصل، الدفاع النيابية تعلن "تطويع" الاف من اهالي الانبار ونينوى لمواجهة القاعدة وجبهة النصرة...
كما أنني أقرأ، باستمرار، عن محاولات، فاشلة، تستهدف اغتيال المحافظ أثيل النجيفي. وقرأنا، قبلها، عن محاولات فاشلة لاغتيال أبن الموصل، رئيس برلماننا، اسامة النجيفي في محيط المدينة. أخبار الأتاوات التي تفرضها التنظيمات المسلّحة، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، على أصحاب المحال التجارية في وسط المدينة، تترى. الشوارع العامة تحفل بشعارات عدائية. السيطرة الأبرز، على أمن المدينة، هي للمسلحين.
أنت تعرف أن من الموصل خيرة ضباط الجيش العراقي على مدى عقود. وأنت تعرف، بالضرورة، أن أغلب هؤلاء تم إجبارهم على أن يكونوا أعداءً للعراق. كيف؟ بقوانين بريمر، التي وقّع عليها العراقيون الطائفيون، أول سقوط نظام صدام. هؤلاء الضباط وجدوا النظرة إليهم قد تحولت من كونهم ضباطاً مهنيين وأكفاء إلى مجرد خونة ومغضوب عليهم، وكان عليهم، في الوقت نفسه، أن يطعموا عوائلهم: فرّ منهم عدد لا بأس به، وبقي عدد آخر يصارع من أجل البقاء، فيما انخرط جزء ثالث في مشروع العنف، وليس مهماً هنا، بالنسبة لي، وربما لهم ايضاً، اي شعار يمكن رفعه في تبرير هذا المشروع!
هذه المدينة العملاقة، بكل شيء، بدأت تتهاوى ببطء خلال السنوات العشر الماضية، وسط صمت حكومي، بدا متواطئاً، على ذلك. الأموال المخصّصة لها ضخمة جداً، على ما تقول ميزانية العراق، ولكنك لا ترى أثراً لإنفاقها في الموصل. الأمن المتدهور سمتها. وشبح التقسيم يطالها. وأهلوها حيارى. هذه المدينة العريقة، التاريخية، يتم ذبحها في كل يوم، فيما ترنو نخبها ليوم جديد. يوم يعيد لهم، ولمدينتهم، بعض حياة!