ليس مهماً الجهة التي تقف وراء عمليتي صلاح الدين وكركوك، الأسبوع الماضي، فالذي يهمّ المراقب قدرة جماعة مسلحة ما على أن تخلخل الوضع الأمني في أي مدينة عراقية وفي أي لحظة تريد.
ولأننا لسنا غرباء إلى هذه الدرجة نستطيع التأكيد على أن عمليات من هذا النوع لم تنقطع منذ سقوط النظام السابق. الفترات التي شهدت استقراراً ملحوظاً في الوضع الأمني، هي فترات نادرة، وأمنها، الرخو، لم يستمر طويلاً. في كل الأحوال، بدت الجماعات المسلحة، كلها، أكثر كفاءة، للأسف الشديد، من أجهزتنا الأمنية. وعلينا أن نتذكّر دوماً أن أجهزتنا الأمنية صرفت عليها أموال خرافية حقاً. فأين العلة؟
بتفكير شخصي، أعتقد أن السبب يكمن في تشكيل قواتنا الأمنية بعد التغيير. وهو تشكيل لم يستند إلى دراسات علمية، أو منهجية، تراعي خصوصية البلاد. لقد تمّ إقصاء أغلب المشتغلين في الأجهزة الأمنية السابقة. وتمّ دمج عشرات الآلاف، وربما أكثر، في الأجهزة الجديدة. كان يعتقد على نطاق واسع أن ولاء هؤلاء، الدمج، مضمون، لا لتجربة الحكم الجديدة، ولكن لزعماء بعينهم. تبين لاحقاً أن هذا الولاء لم يكن قادراً على أن يتحول إلى ولاء وطني. فهو ولاء تحرّكه نزعات طائفية، حيناً، ومادية سببها التطلع للنفوذ والمال والسلطة، حيناً آخر.
وبعد أن تمّ تصوير المشتغلين في الأجهزة الأمنية السابقة، كلّهم، على أنهم مجرد أدوات للنظام الديكتاتوري، ويجب أن يتمّ "اجتثاثهم"، تحوّل أغلب هؤلاء إلى الضّفة الثانية، أي ضفة العداء لتجربة الحكم الجديدة. صار لدينا مسرح مثالي لأن تستغلّه الجماعات المسلّحة فتقدم، بين الحين والآخر، مسرحياتها المتقنة الصنع. يسقط بضعة عراقيين قتلى، ومثلهم جرحى، فيما ينسى المتفرجون أنهم شاهدوا المسرحية ذاتها في الليلة الفائتة، ذلك أنهم، وكالعادة، ينشغلون بعدّ القتلى!
وكثيراً ما قلت، وغيري أيضاً، أن الأمن في العراق صناعة سياسية. لو حلّ الفرقاء، الذين ابتلانا الله بهم، مشكلاتهم، لحلّت المعضلة الأمنية. فالحلّ السياسي يستدعي إعادة تشكيل القوة الأمنية، بما يناسب مفاهيم المواطنة التي تعلو على مفاهيم الطائفة، وما شابه. ولكن المشكلة الواقعية، التي علينا أن نقرّ بها، هي أن الفرقاء متمسّكون بقوة بهذه التفصيلة، القادرة بالفعل، على تثبيتهم في كراسيهم. الانتهاء من صفحة الطائفية، أو غلقها، يمثل انتحاراً للنخبة السياسية الحالية. هذه النخبة التي تتاجر بالطائفية، لا يمكن أن نصدّق شعاراتها في هذا الشأن. أريد أن أكرّر الجملة ذاتها مرات ومرات. انها نخبة تعتاش على الطائفية. فكلّما خبت نارها وضعت زيتاً ليصعد لهيبها لعنان السماء. هكذا، من المرجّح أن يستمر الوضع الأمني على حاله. مراوحة بين أمن هشّ، وأمن مفتقد بشكل كامل. الآن: تسقط مدن كاملة بيد الإرهاب، أو لنقل بيد الجماعات المسلحة، ولا يتغير شيء في خطتنا الأمنية، تلك الخطة التي عمادها قادة عسكريون يريدون الحفاظ على غنائمهم، وعساكر تحرّكهم دواع مادية أو طائفية، على الأعمّ الأغلب.
أنتم تعرفون السيد باقر جبر صولاغ؟ تعالوا نقرأ خريطة الطريق التي يرسمها لوضعنا المزري، يقول وزير الداخلية الأسبق: في رأيي أن السبب الأول في الانحدار الأمني هو الفساد الذي استشرى في مؤسسات الأجهزه الأمنية، والسبب الثاني هو تعثر جهود الإعمار ومكافحة البطالة، والثالث هو غياب التفاهمات السياسية بين الكتل التي تمتلك رصيداً جماهيرياً.
مقالات اخرى للكاتب