وأنا أمشي في منطقة الباب الشرقي التقيت صدفة جار لنا منذ السبعينات يكنى أبو ثائر رجل مرح وحديثه ندي، بلغ السبعين، لم تسقط له سن، ولم تظهر على وجهه تجعيده، أما الشيب فقد أدمن على إخفائه بالحناء حيناً وبالأصباغ أحيانا ،تجرأت مرة وسألته : هل تصبغ شعرك يا عم أبو ثائر؟
قال ضاحكاً : أتراني تجاوزت الأربعين ! قلت : إنك تبدو في الأربعين بالفعل مع أنك أكبر من جدي بخمس سنوات !!وجدي شعره كاللبن
تفرقنا في دروب الحياة وبعد شهر لقيت العم أبو ثائر في الطريق فلم أعرفه فناداني قائلاً : ألم تعرفني؟ قلت إنك غير العم أبو ثائر تماماً، ولولا صوتك ما عرفتك أبدا ..قال : لنجلس ونتناول المرطبات لأحدثك لماذا لبست المظهر المخادع
كانت لحيته بيضاء كالثلج، وقد تناثرت في رأسه شعرات سوداء كأنها بعض الماعز بين قطيع الشياه البيضاء، قال بنصف ابتسامة : إن الناس قد تحدثوا كثيراً عن مظهري الخادع، ولكني لم اعبأ بهم فهم في النهاية ليسوا رؤسائي في العمل وإنما" مسولفجية" .
أنا الآن يا ولدي في طريقي للتقاعد ولكن ليس برغبتي حيث افتش عن اول امر وزاري تعينت فيه منذ السبعينات ولم اجده لحد الان، ونحن نعمل في دوائر تنتهي فيها صلاحية الموظف حين يشتعل رأسه ولحيته شيبا ولكن بدون مرتب يكاد ان يسد رمق المعيشة القاسي لان" السادة النواب" لن يشرعوا قانون التقاعد الجديد خاصة بعد أن طالب الشعب بعدم جوازيه وشرعية تقاعدهم عن خدمة أربع سنوات قضوا أكثر من نصفها في أقطار الخليج ودول أوربا وإيران في ايفادات وعلاجات وغيابات وابرام عقود تجارية وصفقات، من خلال اضافات لاتمت للقانون بصلة.! وشهدت أشخاصاً أصغر مني طويت ملفات خدمتهم، وقيل لهم مع السلامة وقبروا أحياء..!!
ولبست ذلك المظهر الخادع، صبغت لحيتي ورأسي لحاجتي إلى الحيوية والتمسك بالحياة والعمل ، وقبل أن أفاجئ الدائرة بالشيب كانت معاملتي بين أيديهم ..ماذا أفعل يا ولدي
في زمن مخادع ومجتمع كل من فيه مخادعون ..إلا من رحم ربي، بل إنه مجتمع دفان، لا يسأل عنك إن تواريت، ولا يرحمك إن أطلق عليك إشاعة مغرضة، فهو يميتك ويحييك دون رحمة أو شفقة .إن كل شيء تغير في مجتمعنا إلا هذه الطباع المستهجنة..
ولنقتلع من أجسادنا أشواك الضيم والى الأبد ولو بعد حين..