تكتسي موافقة الدولة المغربية على مشروع قرار أممي حول حرية المعتقد تقدمت به أزيد من ستين دولة أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف في دورته الخامسة والعشرين أهمية بالغة ، سواء بالنظر لطبيعة مشروع القرار أو بلحاظ المكانة الدستورية للاتفاقيات الدولية .
إن مشروع القرار الأممي ليس جديدا في مضامينه ، بل هو إعادة طرح مادة نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، ويتضمن القرار الذي وافق عليه المغرب (حق كل فرد في حرية الفكر والوجدان والـدين أو المعتقـد، بما يشمل حريته في أن يكون أو لا يكون له دين أو معتقد أو في أن يعتنق دينا أو معتقـدا يختاره بنفسه، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعليم والممارسة والتعبد وإقامة الـشعائر، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة، بما في ذلك حقه في تغيير دينه أو معتقده) ، كما أكد القرار على أن ( الدول مسؤولة في المقام الأول عن تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، بما في ذلك حقوق الإنسان للأشخاص المنتمين إلى أقليات دينية، بما يشمل حقهم في ممارسة دينهم أو معتقدهم بحرية) ، وأيضا على ( أن حرية الدين أو المعتقد وحرية التعـبير مترابطتـان ومتـشابكتان ومتعاضدتان ) ، كما أشار القرار إلى إدانة التمييز على أساس المعتقد (من خلال القوالب النمطية المهينة والتوصيف السلبي ووصم الأفراد علـى أساس دينهم أو معتقدهم) .
إن الإقرار الدستوري بالحجية القانونية للاتفاقيات الدولية التي يبرمها المغرب وبالمرجعية الكونية لمنظومة حقوق الإنسان سواء في إطار الصيغ السابقة للدستور أو في إطار المراجعة الدستورية لسنة 2011 لم تمنع من وجود التفافات على تلك الاتفاقيات أفرغتها من قيمتها الحقوقية والإنسانية .
بالعودة إلى طبيعة تلك الالتفافات ، نجد أن بعضها حمل سمة نظرية وبعضها الآخر كان متصلا بتعطيل التفعيل الدستوري بحيث ظل حبرا على ورق ..فأثناء صياغة الدستور لسنة 2011 ، قامت القوى المناهضة لحرية العقيدة بغض النظر إن بفعل ذاتي أو بإيعاز موضوعي بمنع التنصيص الدستوري على مبدأ حرية المعتقد ، وهو ما تم فعلا التجاوب معه فخرجت الوثيقة الدستورية الحالية خالية من الإشارة المباشرة لهذا المبدأ الإنساني بل والإسلامي أيضا .
إن عدم التنصيص بشكل صريح على حرية المعتقد في الوثيقة الدستورية لسنة 2011 مثل خيبة أمل وانتكاسة حقوقية كبيرة ، غير أن الدستور نص في ديباجته على حرية العقيدة بطريقة غير مباشرة من خلال حديثه عن مناهضة التمييز على أساس المعتقد ، وأيضا عن سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية ، إلا أن الصياغة الدستورية الحالية لا تخلو من تفخيخ والتفافات تفرغ مبدأ سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية من محتواها ، حيث جاء في النص الدستوري (جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة) .
إننا نتساءل في هذا المقام عن مغزى عبارة ( وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة ) ! مما يعني أن ظاهر النص الدستوري يفيد أولوية الاتفاقية الدولية على التشريعات الوطنية من خلال عبارة ( تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة ) ، لكن النص الدستوري علق الأولوية على ( نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة) ، مما يعني أننا أمام التفاف دستوري آخر ، يتيح إمكانية المناورة والتأخر في الوفاء بالتزامات المغرب الدولية خاصة في مجال حقوق الإنسان .
إن النص الدستوري الذي يتحدث عن تشبث المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وبأنها قيم لا تقبل التجزئة يتعارض مع عبارة ( في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية ) ، بما يفيد أن الدستور المغربي لم يتخلص من التناقض والازدواجية بين منطقي ( الخصوصية الثقافية ) و ( المرجعية الكونية) لحقوق الإنسان ، لذلك جاءت النصوص الدستورية في هذا المقام غامضة وملتبسة .
إننا اليوم أمام مفترق طرق حقيقي ، فإما أن يرتهن المغرب لمنطق إيديولوجي ضيق تنتصر له تيارات متخلفة ومتطرفة تسيء للدين الإسلامي الحنيف من حيث تعتقد أنها تدافع عنه ، وإما أن ينتصر لمنطق حرية العقيدة الذي هو مبدأ إسلامي إنساني رفيع انتصر له القرآن وسيرة النبي صلى الله عليه وآله خلافا لتلك التأويلات الفاسدة لنصوص القرآن والسنة والقراءات المنحرفة للسيرة النبوية الشريفة ، والتي تجعل من الإكراه الديني واستعمال العنف أدوات لتمكين الدين في الأرض .
مما لا شك فيه أن مصادقة المغرب على القرار الأممي المتعلق بحرية المعتقد إيجابي وحدث مفصلي في تاريخ الحركة الحقوقية المغربية ، غير أنه يبقى خطوة ناقصة ما لم يتم بلورة ذلك الاتفاق الدولي في صيغة دستورية واضحة المعالم ومنظومة حديثة ملائمة من القوانين وسياسات عمومية مندمجة مع منطق المرحلة واستحقاقاتها الحقوقية .
فالاستراتيجية المندمجة للإصلاح الحقوقي –في نظرنا- تتكون من ثلاث مسارات :
أولا : الإصلاح الدستوري : وذلك من خلال القطع مع مرحلة الغموض والالتفافات اللفظية ، والحسم مع منطق الازدواجية ، والتنصيص صراحة على مبدأ حرية العقيدة بكل التفاصيل التي أوردها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقرار الأممي الأخير لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة .
ثانيا : الإصلاح التشريعي : وذلك بأن يتم حذف الفصل 220 من القانون الجنائي المغربي الشهير بفصل ( زعزعة عقيدة المسلم ) والذي استعمل في اتهام وإدانة آلاف المعتقلين بما فيهم المعتقلين الإسلاميين ..وأن يتم سن قوانين تنظم حرية المعتقد والعبادة وأيضا تجرم التكفير والتمييز على أساس المعتقد وتمنع التصنيفات السلبية بين المواطنين على أساس معتقداتهم .
ثالثا : إصلاح السياسات العمومية : وذلك من خلال مراجعة السياسات العامة في عدة مجالات ، لكن أهم تلك المجالات :
- الحقل الديني : بحيث لا يصبح المنبر الديني والمؤسسة الدينية قاعدة خلفية للتمييز على أساس المعتقد وبث ثقافة الكراهية والتعصب الديني والمذهبي ، وأن يتم العمل على نشر ثقافة الحوار و التنوع والقبول بالاختلاف والتسامح وعدم احتكار الحق والحقيقة وتكفير المخالف .
- الحقل الإعلامي : وذلك بأن يتم حفظ الإعلام من منطق التدخلات الطائفية وتأكيد حياديته في مجال المعتقد ، وألا يتم تحقير أي فئة دينية بطائلة المتابعة القانونية والتعويض المادي ، بشكل يضمن انسجام الإعلام مع رسالته التنويرية والوطنية بعيدا عن الحدود الإيديولوجية الضيقة .
- الحقل التعليمي : من خلال مراجعة البرامج التعليمية وتعديلها ، بحذف كل ما له صلة بالتعصب الديني أو الطائفية ، وجعل التعليم أداة لنشر قيم التسامح واللاعنف والقبول بالآخر والحوار معه على قاعدة عدم تمثيل الحق المطلق والإقرار بنسبية الجهد الإنساني في رحلة البحث عن الحقيقة الدينية .
- الحقل المدني : حيث يتوجب إصدار تعليمات للسلطات الإدارية والأمنية بعدم عرقلة قيام جمعيات ثقافية أو أحزاب سياسية يتقدم بها مواطنون مغاربة على خلفية معتقداتهم الخاصة ، وأن يتم الاقتصار في المنع على التنصيص المباشر في القانون الأساسي على كل ما له صلة بالأسس الطائفية ( اللغوية والدينية والمذهبية..) بناء على ما هو منصوص عليه في قانون الجمعيات والأحزاب السياسية ، وأن تكون الرقابة على أداء تلك الجمعيات والأحزاب مواكبة وبعدية لا قبلية ، وأن يكون للقضاء دوره في ضبط السير العام وفق الأهداف المسطرة في القانون الأساسي لتلك الهيئات الثقافية والسياسية .
أخيرا ، هذه قراءة موجزة لإشكالية العلاقة بين الاتفاقيات الدولية والنص التشريعي بالمغرب ( الدستور والقوانين ) ، ولائحة بأهم المطالب الحقوقية المستوحاة من نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأيضا من القرار الأممي الأخير الذي وافق عليه المغرب في الدورة الخامسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
مقالات اخرى للكاتب