العراق تايمز: كتب السيد عصام احميدان الادريسي..
مدخل :
جاء في الخطاب الملكي للملك محمد السادس يوم 9 أبريل 2011 ما يوضح خلفيات الوثيقة الدستورية الجديدة للمغرب (دستور 2011 ) ، فمن جهة الشكل اعتبر الملك أن الدستور الجديد صيغ من خلال الشعب بطريقة تشاركية لكونه في نهاية المطاف دستور كل المغاربة ، ومن جهة المضمون اعتبره دستورا يؤسس لنموذج دستوري مغربي متميز ، قائم على دعامتين :
1- الثوابت الراسخة للأمة المغربية وهي كون المغرب ( دولة إسلامية يتولى فيها الملك أمير المؤمنين حماية الملة والدين وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية ) .
2- تكريس الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي في أسسه القائمة على ( مبادئ سيادة الأمة وسمو الدستور كمصدر لجميع السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة ) .
وسنركز حديثنا في هذه الورقة على الشق الأول الذي هو بمثابة الهوية المذهبية للدولة المغربية على ان نتحدث في الورقة السياسية على الشق الثاني المتعلق بطبيعة النظام السياسي في المغرب على ضوء الدستور والاختيارات السياسية للمجتمع والسلطة ..لأجل بسط رؤيتنا الرسالية لمن يريد أن يخضعها للبحث والنقاش .
إن الملك محمد السادس في خطابه التمهيدي لبدء المشاورات لصياغة دستور 2011 ، والذي أتى في ظل ظرفية سياسية إقليمية ومحلية دقيقة ( الثورات الإقليمية و انطلاقة حركة 20 فبراير بالمغرب ) ، عمل على توضيح المعالم الجديدة للمراجعة الدستورية بالمغرب سواء من جهة الشكل أو المضمون ، فمن جهة الشكل أكد على كون الديباجة الدستورية هي جزء لا يتجزأ من النص الدستوري مما يتعين معه إمكان إلزام السلطات بمقتضياتها ..ومن جهة المضمون تطرق الملك إلى دعامتي الدستور وهي ( الدعامة الدينية للدولة ) و ( الدعامة السياسية ) لها .
إن القول أن المغرب ( دولة إسلامية يتولى فيها الملك أمير المؤمنين حماية الملة والدين وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية ) يعني أننا أمام ثابت أساسي ألا وهو "إسلامية الدولة المغربية" و جمع رئيس الدولة المغربية لصفتين ( الملك) و ( أمير المؤمنين) مع تبيان الوظيفة الدينية للملك أمير المؤمنين ألا وهي ( حماية الملة والدين وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية ) .
إن الملك محمد السادس لم يقم يتخصيص الهوية الدينية للدولة المغربية وحصرها في مذهب من المذاهب الإسلامية ، علما أن الحديث عن المذهبية السنية المالكية يبقى حديثا سياسيا إن لم يتم تجسيده في إطار الوثيقة الدستورية أو من خلال الظهائر الشريفة ، لأن الملك أكد على أن المقتضيات الجديدة للدستور المراجع سنة 2011 ستمكن من فصل السلط والخروج من هلامية الفصل 19 في الدستور السابق إذ قال ( ومن معالم فصل السلط ، وتوضيح صلاحياتها ، تقسيم الفصل 19 في الدستور الحالي إلى فصلين اثنين ، فصل مستقل يتعلق بالصلاحيات الدينية الحصرية للملك أمير المؤمنين ، رئيس المجلس العلمي الأعلى الذي تم الارتقاء به إلى مؤسسة دستورية ، وفصل آخر يحدد مكانة الملك كرئيس للدولة وممثلها الأسمى ورمز وحدة الأمة ..) ، مما يعني أننا أمام حقلين متمايزين : حقل ديني وآخر سياسي ، جسر اللقاء بينهما يتمثل في تلازم صفتين لرئيس الدولة المغربية وهما ( الملك وأمير المؤمنين) ، بما يفيد عدم الفصل بين الديني والسياسي بشكل مطلق ولا دمجهما بشكل مطلق ، فالديني والسياسي يلتقيان في شخص رئيس الدولة فقط ، بينما رئيس الحكومة يدبر الحقل السياسي تحت إشراف ورقابة رئيس الدولة.
فما هي الهوية الدينية للدولة المغربية وكيف يمارس رئيس الدولة مهامه الحصرية في الإشراف على الحقل الديني بالمغرب ؟ ( 1) وما هو الموقف الرسالي الشرعي والواقعي من الهوية الدينية والمذهبية للدولة و من العلاقة بين الدين والسياسة ومن إمارة المؤمنين ؟ (2) .
ستشكل الأجوبة على الأسئلة الثلاث السابقة هيكلة الورقة المذهبية للخط الرسالي ، لتجيب على الأسئلة المطروحة والشبهات التي يثيرها خصوم الخط في وجهه لإعاقته من الولوج إلى ساحة العمل الوطني ، لتكون محاور الورقة المذهبية كالآتي :
(1) – الهوية الدينية للدولة المغربية في ظل إمارة المؤمنين .
(2) –الموقف الرسالي من الهوية الدينية للدولة وإمارة المؤمنين
(1) – الهوية الدينية للدولة المغربية في ظل إمارة المؤمنين :
حيث أن الدستور هو القانون الأسمى للبلاد وهو من يتكفل بعرض ثوابت الدولة المغربية ، فإننا سنعتمد عليه في تحديد معالم الهوية الدينية للدولة المغربية في ظل الحضور المركزي لمفهوم ( إمارة المؤمنين) في تأطير الحياة الدينية للمواطنين المغاربة .
جاء في تصدير الدستور الحالي الذي أيضا ورد في الوثيقة الدستورية أن ( هذا التصدير جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور ) بأن ( المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة ، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية ، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية –الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوأ الدين الإسلامي الصدارة فيها ، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء ).
إننا من خلال النص الدستوري السابق لسنا أمام هوية بسيطة بل أمام هوية تركيبية يتداخل فيها البعد الديني بالقومي ( بالمعنى اللساني والثقافي لا الإثني للقومية ) غير أن الدين الإسلامي يبقى هو دين الدولة المغربية المجسد لإسلاميتها والعنوان الأبرز للهوية المغربية .
إن النص الدستوري لم يشر إلى وجود أديان أخرى بالمغرب من قبيل الديانة اليهودية ، فهو عند إشارته لليهود المغاربة كان بصدد الإشارة إلى روافد الهوية الوطنية : الإفريقية والعبرية والمتوسطية ، فالعبرية إشارة إلى الثقافة اليهودية لا إلى الديانة اليهودية ، غير أن ذلك لم يمنع من وجود اعتراف رسمي بالديانة اليهودية كديانة لقسم من المغاربة ، ويحظون بالترخيص والحماية لدور عبادتهم .
من هذا المنطلق ، فإن عدم التنصيص الدستوري على ديانة ما لا يعني بالضرورة أنها ديانة محظورة ، فرئيس الدولة المغربية بصفته أميرا للمؤمنين هو صاحب الاختصاص الحصري في الإشراف على الحقل الديني ، بل إن من وظائفه ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية لكل المواطنين كما سنأتي على ذكر ذلك في أثناء الحديث عن "إمارة المؤمنين" .
بالرجوع إلى الأحكام العامة في الدستور الحالي وتحديدا الفصل الأول منه ، نجد أن الأمة المغربية تستند ( على ثوابت جامعة ، تتمثل في الدين الإسلامي السمح ، والوحدة الوطنية متعددة الروافد ، والملكية الدستورية ، والاختيار الديموقراطي ) ، مما يعني أن الثوابت الدستورية للدولة المغربية هي أربعة : الدين الإسلامي ، الوحدة الوطنية المركبة ، الملكية الدستورية ، الاختيار الديموقراطي .
وفي الفصل الثالث من الأحكام العامة نجد تنصيصا صريحا على دين الدولة المغربية : ( الإسلام دين الدولة ) ، كما أن ( الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية ) ، وهنا يجب التوضيح أن النص الدستوري استعمل عبارة ( دين الدولة ) ولم يستعمل عبارة ( دين الشعب ) أو ( دين الأمة ) ، مما يعني أنه قد تتواجد أديان أخرى يتعبد بها بعض المغاربة ، وفي هذا الإطار تندرج الديانة اليهودية التي هي ديانة لها وضعها الرسمي ولا ينافي وجودها قاعدة ( الإسلام دين الدولة ) .
إن عبارة ( الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية ) لم تحدد إن كان الشأن الديني هو حكرا على المسلمين دون غيرهم من غير المسلمين كاليهود ، كما لم تحدد كيفية ضمان الدولة لكل فرد حرية ممارسة شؤونه الدينية ، إن كان بطريقة فردية أم جماعية ؟ مما يرجع فيه إلى القوانين المنظمة للحقل الديني وبالدرجة الأولى إلى من له الإشراف على الحقل الديني بالمغرب وهو الملك بصفته أميرا للمؤمنين .
إن النص الدستوري تطرق إلى إسلامية الدولة المغربية وكون الدين الإسلامي هو دين الدولة ، غير أنه لم يتطرق إلى مذهب بعينه من داخل الإسلام ، فلم تتم الإشارة دستوريا إلى عقيدة الدولة المغربية إن كانت أشعرية أم طحاوية أم ماتريدية أم حنبلية ، ولا إلى المدرسة الفقهية للدولة المغربية إن كانت على المذهب السني المالكي أو غيره ، رغم أن الخطاب السياسي لمسؤولي الدولة المغربية ظل حافلا بإشارات إلى عقيدة الأشعري وفقه مالك بن أنس وطريقة الجنيد في التصوف .
من هنا ، يمكن القول أن تلك العناوين الفرعية من داخل الدين الإسلامي ( العقيدة الأشعرية ، الفقه المالكي ، التصوف على طريقة الجنيد ..) ما هي إلا اختيارات سياسية للدولة المغربية وليست ثوابتا دستورية للدولة المغربية فضلا عن أن تكون ثوابتا للأمة المغربية التي هي أكبر من الدولة المغربية ، وبالتالي لا يمكن إقصاء أي توجه فكري بحجة كونه مخالفا للاختيارات السياسية للدولة ، لأن الأساس الذي يخضع له المواطنون هو الدستور والقوانين لا التوجهات السياسية للدولة ، كما أن التوجهات السياسية قابلة للتغير عند تغير مقتضياتها ، بينما الثوابت الدستورية للدولة لا تقبل التغيير إلا إن تغير الرأي العام المغربي بشكل جذري وهذا صعب التحقق كما هو معلوم لدى علماء الانتروبولوجيا المعنيين بدراسة تغير الأنماط الثقافية للمجتمعات .
بالعودة أيضا للباب الثالث من الدستور ( الملكية) في الفصل 40 منه ، نجد أن المجلس العلمي الأعلى هو ( الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا ، في شأن المسائل المحالة إليه ، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ، ومقاصده السمحة ) ، فالنص الدستوري لم يشر أيضا إلى أن المجلس العلمي الأعلى يستند في فتاواه على أحكام الفقه المالكي بل نص على أنه يستند على أحكام الإسلام ومقاصده السمحة ..بل ثبت من خلال الممارسة العملية أن الاجتهاد الشرعي الرسمي في المغرب اتجه في عدم شرطية الولي في صحة عقد الزواج إلى مذاهب إسلامية أخرى ترى أن الولاية في الزواج شرط إثبات لا شرط صحة .
إن الهوية الدينية للدولة المغربية هي الإسلام ، والوحدة المذهبية السنية المالكية ليست من الثوابت الدستورية ، بل هي اختيار سياسي له ما يبرره ، غير أنه على كل حال يبقى خيارا التزمت به الدولة فصارت ملزمة به ولا يلزم به المواطنون ..لأنه إن كان الأصل أن ( لا إكراه في الدين ) فكيف نبرر للإكراه في المذهب ؟ ! عموما ، إن مساحة التشريع الإسلامي في مجمل التشريعات العامة محدودة على كل حال ، وتنحصر في دائرة الأحوال الشخصية ، مما يجعل الجدل حول الهوية الدينية والمذهبية للدولة غير ذات ثمرة عملية .
إن كان هذا هو وضع الهوية الدينية للدولة المغربية ، فإن مفهوم "إمارة المؤمنين" أثار ولا يزال الكثير من الجدل بين قوى المحافظة والتحديث في المجتمع المغربي ، مما يتعين معه العودة للنص الدستوري لبسط هذا المفهوم ، خاصة وأن دستور 2011 أخرج هذا المفهوم من الغموض الذي انتابه في الدستور السابق ، كما سبق أن بين الملك في خطابه الذي مهد وضع مسودة الدستور .
جاء في الفصل 41 أن ( الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين ، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية .
يرأس الملك أمير المؤمنين المجلس العلمي الأعلى ، الذي يتولى دراسة القضايا التي تعرض عليه .
ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا ، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ، ومقاصده السمحة .
تحدد اختصاصات المجلس وتأليفه وكيفيات سيره بظهير .
يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين ، والمخولة له حصريا ، بمقتضى هذا الفصل،بواسطة ظهائر ) .
إذن فإمارة المؤمنين مفهوم خاص بالحقل الديني وليس بالحقل المدني ، يمارس من خلاله الملك صلاحياته الدينية بواسطة ظهائر وليس بشكل اعتباطي ، مما يعني أن الالتباس بين الديني والمدني زال بعد التعديل الدستوري الاخير ، وأصبحنا أمام تمييز منهجي ومجالي بين الديني والسياسي لا بمعنى الانفصال التام ولا بمعنى التوحد المطلق .
إن حديث البعض عن كون وحدة المذهب السني المالكي هي الضمانة للحفاظ على إمارة المؤمنين كلام غير سليم ، لأن ذلك التصور يختزل مفهوم إمارة المؤمنين في شكل طائفي ضيق ، بحيث يتم تصوير الملك وكأنه أمير السنيين المالكيين فقط ، أو كأن من هم خارج الدين الإسلامي من يهود المغرب أو من هم خارج ذلك المذهب ليسوا بمؤمنين ، وهو منطق طائفي بامتياز يوسع دائرة الخارجين عن الملكية ولا يقويها خلافا لما يتم الترويج له .
إن مفهوم ( إمارة المؤمنين ) بالتأويل المذهبي الضيق لا يتناسب وغرض السلطة الدينية في توحيد الحقل الديني واستيعاب أوسع الشرائح الاجتماعية ، غير أن تأويل ( المؤمنين ) ب(الموحدين) من شأنه أن يجعل اليهود المغاربة و حتى المسلمين من مختلف المذاهب الإسلامية تحت عنوان (إمارة المؤمنين) .
إن كان التعديل الدستوري لسنة 2011 قد أخرج مفهوم ( إمارة المؤمنين) من مشكلة عدم التقييد المنهجي فانتقلنا للحديث عن مستويين مختلفين ( رئاسة الدولة ) و ( إمارة المؤمنين) ، غير أننا بحاجة اليوم إلى معركة فكرية تأويلية لمفهوم ( إمارة المؤمنين ) لإخراجه من التأويل الضيق وتوسعة الحقل الديني المغربي ليكون فعلا معبرا عن كل الموحدين المغاربة ( مسلمين وغير مسلمين ) .
(2)–الموقف الرسالي من الهوية الدينية للدولة وإمارة المؤمنين :
بناء على ما تقدم من قراءة دستورية للهوية الدينية للمملكة المغربية ولمفهوم إمارة المؤمنين ومجال إعمالها وأدواتها ، فإننا في تحديد موقفنا من الهوية الدينية للدولة المغربية وإمارة المؤمنين أمام اتجاهين متعارضين :
الاتجاه الأول : وتذهب القوى السياسية الحداثية والعلمانية إلى ضرورة تبني خيار علمنة الدولة والمجتمع وإلغاء المحددات الدينية والمذهبية وإخراج مفهوم "إمارة المؤمنين" من المجال العام ، الذي هو مجال للاشتغال السياسي المدني ..كما يؤكد هذا الاتجاه على مفهوم "الدولة المدنية " في مقابل "الدولة الدينية" و"المواطنة" كأساس وحيد للبناء الاجتماعي والسياسي .
الاتجاه الثاني : وهو اتجاه بعض القوى المحافظة في المجتمع ، حيث يرى أنه ينبغي تعزيز خيار الدولة الدينية وتفعيل مبدأ إسلامية الدولة ولو بشكل متدرج وفق منحى زمني معين ، كما يعتبر أن الوحدة الدينية والمذهبية في إطار الإسلام السني المالكي وإمارة المؤمنين متلازمتين لا يمكن التفكيك بينهما ، وهما صمام الأمام لوحدة المجتمع واستقرار السلطة السياسية بالبلاد .
إننا وإن كنا نلتقي مع الاتجاه الأول في ضرورة بناء الدولة المدنية المحايدة دينيا وسياسيا ، وفي جعل (المواطنة) هي الأساس في البناء الاجتماعي والسياسي المغربيين ، غير أننا نستشكل من الناحية الشرعية على تبني أطروحة ( علمنة الدولة والمجتمع ) ونعتبره خيارا يفتقد إلى العمق الفكري والتأصيلي من داخل الدين الإسلامي ، كما نعتقد أن التمييز بين الديني والسياسي ممكن غير أن الفصل التام غير مبرر ، بل إن جمع رأس الهرم في الدولة والمجتمع للسلطتين الدينية والسياسية ليس فيه ما ينافي مسيرة الحركة الديموقراطية ، ففي إنجلترا توجد ملكة دستورية تحظى بلقب ديني ( رئيسة الكنيسة الكاثوليكية) ، غير أن تقوية السلطات المنتخبة واكتفاء الملكة بأدوار سيادية تحكيمية جعل التجربة الملكية الإنجليزية تعد من التجارب الديموقراطية الناجحة في العالم ..أيضا لا نعتقد أن ترك الحقل الديني في حالة فراغ تدبيري سيخدم الأقليات الدينية والمذهبية ، بل سيكون مدخلا لقيام تكتلات طائفية متناحرة.
في مقابل ذلك ، نعتقد أننا وإن قبلنا بأطروحة تعزيز إسلامية الدولة ، وبكون الدين شكل تاريخيا في إطار التجربة المغربية مقوما وحدويا ونهضويا إلا أننا نعتبر أن تقزيم الإسلام في إطار الشريعة المحمدية مناف للحقيقة الدينية ، فالدين عند الله هو الإسلام ، كما أن الإسلام هو الدين الذي دعا له كل الأنبياء عليهم السلام من نوح إلى محمد عليهم السلام ، بل إن الملة الإبراهيمية هي الوحدة الجامعة بين الشرائع : الموسوية ، العيسوية ، المحمدية ، غاية ما هناك أن التنوع الحاصل هو تنوع في الشريعة والمنهاج ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) ..أيضا تقزيم الإسلام في مدرسة كلامية أو فقهية أو سلوكية واحدة لايخدم الإسلام ويضيق من سعته ، ويقوض الأبوية الدينية للملك أمير المؤمنين على كل المسلمين بمختلف أطيافهم ، ويحول الدين إلى طائفة في مواجهة طوائف .
إننا ( في الخط الرسالي) أمام هذين الاتجاهين المتناقضين ، نختارطريقا ثالثا ، وهو لا يلغي الهوية الدينية للدولة ولا يضيق من مفهوم الدين وإمارة المؤمنين ، بل يسعى إلى تأويل مفهوم الدين وإمارة المؤمنين بطريقة أوسع وأشمل ، بما يضمن الحيادية الإيجابية لأمير المؤمنين وضمان أبويته الروحية على كل الطوائف والمذاهب ، بما يتحقق معه التجسيد العملي لهدف ( الأمن الروحي للمواطنين) ، إذ لا يتحقق ذلك الأمن على قاعدة الإلغاء والإقصاء واحتكار الحق والحقيقة ، بل من خلال التعايش والتسامح والوسطية والاعتدال ونبذ العنف .
أيضا ، دفعا لأي التباس وشبهة في شعار ( دولة الإنسان طريقنا إلى دولة الإسلام ) ، ينبغي توضيح جملة من النقاط ..فكلامنا عن أفق "دولة الإسلام" لا يعني أننا لا نعتبر المغرب بلدا إسلاميا ، لكنه يعني أن الإسلام مشروع حضاري وليس مجرد منظومة عقدية تعبدية ، كما أن دولة الإنسان ليست مرحلة تكتيكية لبلوغ دولة الإسلام وإلغاء حرية الجماهير وحقوقها ، بل يعني أن بلوغ المشروع الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يتم بواسطة العنف أو العمل الانقلابي الفوقي ، إنما ينبثق من رحم الاختيار الشعبي الحر ، في إطار دولة تحترم إرادة الإنسان وحرية اختياره ..ولو رفض الشعب المشروع الحضاري الإسلامي فعلى أنصار المشروع الإسلامي أن يتقبلوا النتيجة ، وأن يفهموا أن الشعب لم يرفض الإسلام بل رفض طريقة عرض المشروع الحضاري الإسلامي أولسوء في وعيه وتمثله عمليا ..مما يحتم عليهم مراجعة نظرياتهم وأطروحاتهم ودخول حلبة الصراع الفكري والسياسي اللاعنفي إلى أن تقبل الجماهير بمشروعهم .
إن حديث البعض عن ثنائية ( الدولة الدينية /الدولة المدنية ) كما لو كانت الدولة الدينية بالضرورة غير مدنية ، والدولة المدنية مفارقة للدين أيضا بالضرورة غير سليم ..فبالعودة إلى مصطلح «المجتمع المدني» المتداول في الفكر المعاصر ، فإننا نجد له مكانة بارزة في الخطاب الإسلامي، وهو مصطلح حديث وإن استخدم في التراث الإسلامي قديماً.
فكلمة (المدني) و (المدينة) و (التمدن) ترجع إلى أصل واحد وهو مفهوم «المدنية» ، وقد حوَّل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) اسم (يثرب) إلى (المدينة)، ويحتاج أمر هذا التحويل إلى الوقوف عند أسبابه ودلالات كلمة (المدينة) في ذلك الوقت، ولعلَّ ما أشار إليه أحد الباحثين صحيحاً، إذ قال أن «(يثرب) مجموعة قرى يسود علاقاتها التوتر والتربص، أكثر من اعتبارها مدينة ذات مجتمع متجانس، متآلف، متعاون»[محمد الحسيني ، مقدمة في السيرة النبوية ومناهجها ، ص 147]. ومن هنا يمكننا أن نفهم تسمية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تنطوي على خلفية التوحيد والتجانس بين مختلف شرائح هذا المجتمع الإسلامي الجديد: المهاجرين من مكة، الأنصار من أهل المدينة (الأوس والخزرج).
والذي يدل أيضاً على وجود خلفية توحيدية في مفهوم «المدينة» مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين المهاجرين والأنصار، وبناء المسجد النبوي الذي أصبح مركز التقاء المسلمين للعبادة، ولتدبير شؤونهم بقيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كالقضاء في المنازعات، والتعليم، وإدارة الجيوش والمراسلات مع باقي الأمم والملوك.. غير أن مفهوم المدينة، إذا ما رجعنا إلى «صحيفة المدينة» لوجدنا أن تلك الصحيفة كعهد وكدستور تشمل حق اليهود من أهل المدينة «فمفهوم المدينة كإطار أعم من كونه إطاراً جغرافياً وسياسياً للجماعة العقائدية المنتمية إلى الإسلام، بل هي أقرب ما يكون إلى مفهوم «المواطنة» الحديث.
وإذا رجعنا إلى مفهوم الأمة، لوجدناه يختلف من لحاظ إلى لحاظ آخر، ومن مورد إلى مورد آخر، فالأمة كمفهوم يختلف بحسب طبيعة الإطار والقاسم المشترك الذي يؤم أن يجمع ويقود ويوجه مسيرة المجتمع.
فتارة تطلق الأمة على الجماعة البشرية الملتحمة عضوياً بالإسلام، وذلك بلحاظ إمامة الإسلام لهم، وتارة تطلق «الأمة» على الجماعة البشرية الملتحمة عضوياً بتكوين جغرافي - سياسي، كما هو الحال في المدينة المنورة، حيث ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صحيفته لأهل المدينة «أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، ليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ، وهنا كما هو واضح عنوان الأمة انطبق على المسلمين واليهود معاً، وفي مورد آخر من الصحيفة نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مفهوم الأمة بالمسلمين دون سواهم إذ قال: «إنهم -المسلمين- أمة واحدة من دون الناس»
من هذا المنطلق ، فلا يمكن فهم هذا الأمر، إلا على نحو وجود دوائر لمفهوم الأمة: دائرة عقائدية، دائرة جغرافية، دائرة تنظيمية – سياسية .. كما أن الدولة التي أرساها النبي صلى الله عليه وآله واصطلح عليها اسم ( المدينة) بدل ( يثرب) ، جعلها قاعدة اجتماعية سياسية للحرية الدينية في العلاقة بين المسلمين وغيرهم من اليهود بل والوثنيين أيضا ، ولم يقم العهد النبوي ( نواة التجربة الدستورية الإسلامية) على مبدأ الإكراه الديني ، وأسس لمفهوم التعايش بين كل الطوائف ، فكانت بذلك الدولة الدينية النبوية دولة مدنية أيضا ، وشكل مفهوم ( المواطنة) عنوان ذلك الانتماء إلى الوحدة الجغرافية-الاجتماعية الجامعة أي ( المدينة) ، بما يترتب عليه من آثار ( حقوق وواجبات المواطنة) بعيدا عن الاعتبارات العقائدية .
إننا نعتقد أن من تسبب في إيجاد هذه الهوة بين مفهومي ( الدولة الدينية) و ( الدولة المدنية) هو التمثل الخاطئ للدين ولمشروع دولة الإسلام ، مما جعل قسما كبيرا من القوى الحداثية والعلمانية تنظر بنظرة سلبية لمجمل المشروع الإسلامي ، لتكون المحصلة بذلك لديهم أننا إما أمام دولة دينية أو دولة مدنية ، وهي ثنائية غير قائمة على أساس علمي متين ، لأن دولة الإسلام هي دولة مدنية بالضرورة وليست دولة لاهوتية ، لدخالة العنصر البشري غير المعصوم فيها ، مما يفتح المجال واسعا أمام حركة النقد الديني والسياسي ، بحيث لا تصبح معه المعارضة للدولة الإسلامية اعتراضا على الدين بالضرورة .
إن العلمانية ليست صيغة اجتماعية وسياسية بديلة قادرة على حل المشكلات السياسية والاقتصادية .. بل هي فكرة إجرائية منهجية تقوم على الفصل بين الديني والسياسي ، وقد اختلف في شكل ذلك الفصل إن كان فصلا جامدا أم مرنا ؟ وإنما ينصب تحفظنا على الفصل الجامد بين الديني والسياسي ، بينما نعتبر الفصل المرن بين المجالين أمر ممكن على قاعدة التمييز بينهما ..وقد لاحظنا أن الملك لم يكن متاحا لكل الأنبياء عليهم السلام بل لبعضهم فقط ، فبني إسرائيل لما طلبوا من نبي الله أن يسأل الله عز وجل كي يجعل عليهم ملكا أجابهم ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) ، فالله تعالى لم يعين لهم نبيهم ملكا ، مما يعني أن الظاهرة النبوية لم تكن على طول خط التجربة الإنسانية ملتحمة بالحكم ..كما أن الخلاف الذي دار بين المسلمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله إنما دار حول "الخلافة" لا "الإمامة" لأن الإمامة منصب ديني يناله الإمام بغير مشورة ، بينما الانتقال إلى الخلافة يتقوم بالسند الشعبي لحاجة الخليفة إلى الانقياد والطاعة ، وإلا فلا رأي لمن لا يطاع ..ومن أراد الاطلاع أكثر على منظورنا (في الخط الرسالي) لمشروع دولة الإسلام ، فليراجع كتاب ( الإسلام يقود الحياة) للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه الله ، إذ نعتز بتبني أطروحته تلك وأطروحاته الأخرى في مجال الفلسفة والاقتصاد وفلسفة التاريخ ( فلسفتنا ، اقتصادنا ، السنن التاريخية في القرآن الكريم ، الأسس المنطقية للاستقراء ..) .
إن التعديل الدستوري لسنة 2011 أقر بسمو الاتفاقيات الدولية في مجال الحريات وحقوق الإنسان على التشريعات الوطنية ، كما أن المغرب صادق على قرار أممي يقضي بحرية المعتقد ، مما يعني أنه لا يمكن قراءة الهوية الدينية للدولة المغربية وإمارة المؤمنين إلا من خلال رؤية مرنة أكثر سعة وتسامحا مع المختلفين دينيا ومذهبيا ، وأقدر على استيعابهم ضمن الإطار الديني أو المدني أو هما معا ..مما يعزز مصداقية أطروحتنا القائمة على ( التوسع في المفهوم ) وتأويل مفهومي الهوية الدينية وإمارة المؤمنين بما ينسجم مع حركية الدستور والتفاعل بين المغرب ومحيطه الموضوعي المتحول .
إن المغرب المعاصر انطلق في مبادرة جديدة لإصلاح الحقل الديني المغربي، وهو ما عبرت عنه وأفصح عنه خطاب 30 أبريل 2004، وقد أبان الخطاب عن كون المبادرة لا تستهدف فقط حماية الإسلام الرسمي فقط، بل تهدف إضافة إلى ذلك، إلى تصحيح صورة الإسلام التي تأثرت كثيرا بتشويه من اتخذ العنف والتكفير منهجا للدعوة الإسلامية.
إننا نقف أمام مرحلة جديدة، وفصل جديد من فصول تشكيل الحقل الديني بالمغرب المعاصر، فهل كتب لهذا المشروع ولهذه المبادرة النجاح ؟ وكيف يمكن للأجهزة الرسمية أن تصنع وعي الجماهير دينيا في وقت تزحف فيه الوسائط الإعلامية المختلفة، وأصبحت فيه المعلومة متحررة من القيود الجغرافية، ويتم تداولها بسرعة فائقة ؟!
إننا لا نعتقد أن هذه المبادرة فشلت في خلق واقع جديد على مستوى الحقل الديني بالمغرب، لكننا في الوقت ذاته لا نعتقد بإمكان تجاوزها لخصوصيات الزمن العالمي المعاصر، بصعوبة تأميم الحقل الديني والتحكم في الوعي الديني للجماهير .
إن أقصى ما أفرزته هذه المبادرة : خطاب ديني رسمي موافق للخصوصية التاريخية وللعصرنة، إلى جانب تيارات فكرية مختلفة، وهو ما أبقى دائرة الجدل العميق بين الأفكار الدينية والمذهبية، وهو أمر يحتاج إلى إدارته من قبل النظام السياسي المغربي بشكل حكيم ومتوازن.
إن إصلاح الحقل الديني المغربي يحتاج إلى تطوير المبادرة في اتجاه استيعاب كل الأفكار الدينية والمذهبية، وتجنب الرؤية الانتقائية للتراث الإسلامي ومنطق الإقصاء، فالمغرب المعاصر هو ملتقى الحضارات والأفكار والثقافات وفضاء للتسامح الفكري، ولابد من بلورة ذلك عمليا من خلال إطلاق دينامية الاجتهاد الحقيقي الذي يتجاوز كل السقوف المذهبية الضيقة، في خطورة ريادية في العالم الإسلامي لبناء إسلام معاصر منفلت من قبضة الفتن الكلامية والفوضى الفقهية.
إننا نعتقد أن المغرب مؤهل للعب دور ريادي على صعيد الأمة الإسلامية ككل، فكل الدوائر المذهبية تعيش اليوم أزمة اجتهاد، وهمّ تجديد الخطاب والمنهج، فبدلا من التقوقع على قواعد أصولية مذهبية وادعاء الممارسة الاجتهادية، فالأجدر بالمغرب المعاصر أن يدشن مرحلة المراجعات النقدية لكل التراث الإسلامي، وأن يسير في اتجاه دعم علم الكلام الجديد والاهتمام بفلسفة الفقه ومقاصديته كخطوة لتأسيس منهجي جديد لعلم أصول الفقه، وتنقيح التاريخ الإسلامي وتسليط الضوء على الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في التاريخ الإسلامي، وفتح نقاش عميق في القيمة النظرية والعملية لعلم الجرح والتعديل وبناء أسس جديدة لتقييم الحديث الشريف. وأيضا العودة إلى القرآن الكريم ليس فقط حفظا، بل فقها وتمثلا، وإدماج المعارف القرآنية في سائر العلوم الإسلامية من شأن ذلك كله أن يعزز قرآنية المعارف الدينية بوصف القرآن القاعدة الأساسية المتينة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وأساس توحد المسلمين جميعا.
إن هذه الأوراش المقترحة، لو تم إعلانها فإن المغرب سيصبح قبلة لكل العلماء المتنورين ومنبرا لتجديد الفكر الإسلامي، ومعقلا من معاقل التنوير الديني يشبه إلى حد ما العصر الموحدي وتأثيراته الإشعاعية على سائر العالم الإسلامي، وبذلك تتحوّل الخلافة المغربية -حاملة هموم المسلمين- إلى قطب ديني عظيم، تتهاوى إليه أفئدة الناس جميعا، لما يمثله مشروعها من حرص على إنقاذهم من التعصب والطائفية المذهبية والدينية، وإخراجهم من مخاطر الجهل والتطرف.
إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم كما يقال، وخير وسيلة لتحصين الحقل الديني المغربي من مخاطر الانغلاق والتطرف وصراع المذاهب، هو المبادرة لإنتاج خطاب يتسامى على الحدود الضيقة لكل المذاهب والاتجاهات، ويرتقي لآفاق القرآن الكريم بوعي توحيدي وبنظر تجديدي، ويلتقي بإنسانية الإنسان في تطلعه للحرية والعدل والكرامة .
إن البعد المؤسسي حاجة ضرورية لإبعاد الحقل الديني من الفوضى الدينية شريطة الانفتاح على كل الطاقات والكفاءات المتنورة وإدماجها في تلك الهياكل، وإن البعد التأطيري بعناصره الأربع في غاية الأهمية من جهة تقريب الخطاب الديني من المواطنين وإشراك المرأة وتأكيد مرجعية الفتوى في الشأن العام وإحياء مكانة العلماء، لكن ذلك يحتاج أيضا إلى التزام منهجية معرفية منفتحة ومرنة في ممارسة العملية الاستنباطية، بحيث تتعامل مع الموروث الإسلامي كملك جماعي ليس حكرا على بلد دون بلد، دون أن يعني ذلك التسليم لكل ذلك الموروث وإنما التعاطي معه في ذات الوقت بوعي نقدي يسائل كل المفردات التراثية ابتغاء الحق والإنصاف.
وأخيرا، إن الإصلاح التربوي والمنهجي جزء أساسي وضروري لإصلاح الشأن الديني وتقويم الوعي الاجتماعي بالدين، لكن ما يتعلق بمادة التربية الإسلامية يجب أن يكون من اختصاص علماء المغرب في أي شكل مؤسسي لذلك، ويقدم بعد دراسة مستفيضة تصور شامل لإدماج التربية الإسلامية في المنظومة التعليمية الوطنية، تقوم الحكومة باعتماده وتكييف مناهج التعليم والتربية وفقها، تأكيدا على مكانة العلماء كما نص على ذلك الخطاب الملكي، وأيضا تجنيبا لموضوع الهوية الدينية من تدخل المنطق السياسي التوظيفي، إذ الحقل السياسي بطبعه غير موحد ويقتضي الاختلاف كما بين الخطاب الملكي.
إننا لنجد في بعض الخطابات الملكية ما يقوي الظن على كون هذه المقترحات تتقاطع في كثير منها مع الدعوة الملكية إلى إعلان نهضة فكرية تنويرية ، ينخرط فيها علماء ومثقفو المغرب في نوع من الاستنفار العقلي والطوارئ الاجتهادية لإنقاذ البلاد والعباد من مخاطر الجهل والتعصب والتطرف حيث جاء في الخطاب الملكي ما نصّه :" ..الإبداع الثقافي والفكري، كفاعل قوي، في محاربة التطرف والظلاميين. مؤكدين ضرورة نهوض العلماء، والمثقفين وهيآتهم، بمسؤولياتهم في التوجيه والتنوير. وإذا كان من طبيعة الفكر أن يمر بفترات مد وجزر، فإنه من غير المقبول جعل أزمة الفكر تترك المجال فارغا للترويج لفكر الأزمة. فبلادنا في أمس الحاجة، لبعث صحوة دينية متنورة، ونهضة فكرية عصرية".
إننا نعتقد أن تشكيل حركة فكرية رسالية عصرية ، بات المدخل لصياغة وعي تنويري ومقدمة لبناء تجربة تنموية رائدة ، وهو ما يسعى الخط الرسالي إلى المساهمة فيه إلى جانب كل القوى الأصيلة والمتنورة ، من أجل إعادة إنتاج قراءة رسالية للدين تنسجم مع مقتضيات المعاصرة ، لأن الزمان يفسر النص أيضا ، فقد روي عن الإمام علي سلام الله عليه أنه قال ( الزمان يفسر القرآن) .