في بداية حياتي المهنية , كنت خافرا في ردهة الطوارئ , وذات صباح , أحضروا شابا بكامل قيافته المدنية ورباطة عنقه , وقد تضرج بدمائه , وكان ميتا ولا يمكن إنقاذه.
وقصته أنه كان في سيارته , وقد مر من قرب علوة بيع المواشي , فشاهد أخاه في شجار مع أحدهم , فتوقف وترجل من السيارة , وحاول أن يكون مع أخيه على الآخر , الذي طعنه بمديته في بطن فخذه الأيسر , فأصاب الشريان الذي يغذي الطرف السفلي , فتدفق الدم بسرعة هائلة , لم يتمكن الآخرون من إسعافه , فسقط ميتا قبل أن يضعونه في السيارة.
تذكرت ذلك الشاب الذي نزف دم عروقه , وأخذت أقارنه بمجتمعاتنا , التي راحت تطعن نفسها بالمديات كل يوم عدة مرات , وكأنها تريد أن تنزف دم وجودها حتى الموت.
فما يحصل في واقعنا الأليم , أن الواحد منا صار يطعن نفسه , بمدية يخترعها , وكأنه يريد الإنتحار , أو إيذاء نفسه , وبمشاركة جميع أفراد المجتمع في هذا السلوك الإنتحاري الإنقراضي , فأن المجتمع بأسره سينزف دمه , وسيسقط مغشيا عليه في غرف الغواية الحضارية المركزة , التي لا تداوي ولا تسعف , بقدر ما تقتل وتفترس.
فالمجتمع ينزف ما فيه من الطاقات والقدرات والعقول والأمنيات , ويتحول إلى وجود شاحب عليل لا يصلح إلا للرحيل.
وكلما أدمن المجتمع على هذا السلوك الدامي , أصبح هو القاتل وهو القتيل.
ولا يمكن تفسير ذلك , إلا أنه سلوك يأس وفقدان أمل وسوداوية , وإختناق في دوامة الإنهيارات والقهر والتداعيات , وفعل انتحار جماعي , تقوم به المجتمعات التي وجدت نفسها في قبضة الهلاك , وفقدان الرغبة بالحياة.
ترى هل أننا ننتحر كمجتمعات , وننزف ما فينا حتى الموت , وهل أن حقيقة سلوكنا وعنوانه , إستنزاف نعالجه بإستنزاف؟!!
مقالات اخرى للكاتب