اصبحت الإستخبارات من الركائز الاساسية للتنظيمات "الجهادية" أبرزها القاعدة و"الدولة الاسلامية" وبعض الجماعات "الجهادية" لتكون الحروب إستخبارية ومعلوماتية بالاضافة الى جانب الحروب على الميدانية. الجماعات "الجهادية" لم تعد مجرد مجموعات دعوية او مسلحة، بقدر ما تقوم على بناء نفسها من الداخل، تبدء بحلقات مغلقة، لتتوسع وتتحول الى شبكة، اكثر من تنظيما. يبدو ان تجارب "الجهاديين" اولها القاعدة، غير قادرة على استيعاب العولمة، وهذا ما عرضها ويعرضها الى الانشقاقات والصراع وهذا يعني، ان هذه الجماعات، كلما صعدت سريعا بالتوسع والانتشار، كلما حكمت على نفسها بان تكون اقرب الى الفشل والتفكك. هذه التنظيمات تستعين بخبرات رجال امن واستخبارات منشقين عن الانظمة والتحقوا بالتنظيم، فأستعان بن لادن بخبرات سيف الدين العدل، في الاعوام المبكرة من تشكيل التنظيم والذي بدئت ملامحه عام 1989، وهذا يعني ان هذه التنظيمات تبداء ببناء نفسها من الداخل من اجل التماسك زالحماية وسد البغرات بقوة وتجنب الخروقات.
إن تجربة سوريا، بالانشقاقات ولجؤ ضباط من الجيش النظامي الى (التنظيمات الجهادية و النصرة والجبهة الاسلامية وثوار سوريا والجيش الحر والدولة الاسلامية والقاعدة وغيرها) ربما هي الاوسع في تأريخ ارتداد رجال الدفاع والاستخبارات في حروب المنطقة. هذه الاعداد التي التحقت بالتنظيمات، تعتبر مصدر معلومات لهذه الجماعات، رغم استطاعت القوات النظامية السورية من استثمار ذلك لصالحها، بزرع عملاء داخل تلك التنظيمات.
ابو بكر البغدادي
لقد رسم ابوبكر البغدادي هيكلية تنظيمه على اساس مؤسسة عسكرية، استخبارية عقائدية، اكثر من ان يكون مجرد جماعة "جهادية". الوثائق كشفت الدائرة المغلقة في التنظيم ابرزهم الحاج ابو بكرالذي قتل في سوريا عام 2013 وابومسلم التركماني واليبلاوي والانباري وغيرها من الاسماء بأنها من الضباط الذين خدموا في اجهزة الاستخبارت والدفاع ماقبل 2003. وهذا يعني ان البغدادي بدء من حيث انتهى بن لادن، ليظهر تنظيما، بأسم وإستراتيجية واساليب عمل اختلفت كثيرا عن القاعدة.
رغم الطفرات التي حققها التنظيم تنظيميا في نوع واساليب عمله، فأنه لم يكن بعيدا عن اساليب القاعدة، في مجال الاعلام واستخدام الانترنيت وفاق كثيرا على بن لادن والظواهري في اساليبه الاستخبارية بالاضافة الى وحشية وشراسة التنظيم. يصدرتنظيم "الدولة الاسلامية"على مواقعه، دورات استخبارات متخصصة غير الدورات الفنية الخاصة بالمتفجرات وغيرها، هي دورات امن المعلومات وامن الاشخاص والمنشأت ليتخرج مقاتليها بخبرات استخبارية، هذا ما تميز به البغدادي كثيرا عن زعيمه الروحي ابو مصعب الزرقاوي الذي كان يعتمد على القوة العسكرية القتالية والقوة البدنية اكثر من المعلومات.
جهاز امن التنظيم
تعتمد التنظيمات على جهاز امن داخلي يكون مسؤولا عن امن مقاتلية واخضاعهم للتدقيق والمراقبة والفحص وبعض مهامه هي جمع المعلومات عن الاهداف من خلال كتائب استطلاع بشرية أوبالوسائل الفنية ورسم المخططات للاهداف ويعتمد على الانترنيت وخرائط على الانترنيت، جوجل بجمع المعلومات عن اهدافها وخاصة مواقع المنشأت ومداخلها ومخارجها.
تحدث مايسمى"مندوب الجهاز الأمني" لتنظيم قاعدة الجهاد في اليمن وجزيرة العرب في إصدار مؤسسة الملاحم في شهر مايو 2013، بعنوان حصاد الجواسيس، يؤكد فيها اعتمادهم خلايا إستخبارية اي شبكة عمل استخبارية داخل المجتمعات تقوم بجمع المعلومات عن قيادات الدفاع والامن والداخلية والامن السياسي في اليمن وكذلك عن الاشخاص الذين يتعاونون مع الحكومة اليمنية. ذكر المندوب الامني، بان جهاز الامن في التنظيم يقوم في اعقاب كل عملية بدون طيار او عمليات عسكرية اخرى تستهدف قياداتها، بمراجعة استخبارية الى علاقات قيادات القاعدة ولقائاتها والاشخاص المشتبه بهم، بزرع شرائح اتصالات ترسل ذبذبات عبر ال "جي بي أس"التي تعطي دلالة حركة عجلات تنظيم القاعدة، فتقوم باعتقالهم والتحقيق معهم من اجل معالجة الثغرات اي الخروقات الاستخبارية التي تعرض لها بعض القيادات. ان دائرة العلاقات الشخصية والاتصالات هي المدخل الرئيسي للوصول الى هذه القيادات.
لقد درس تنظيم القاعدة تشكيلات "السي اي اية" وعملياتها الاستخبارية المغطاة وعمل على تحديثها .واعتمدت القاعدة طريقة الاستخبارات المركزية الاميركية والغربية في حرب المعلومات والاستخبارات، وحصل على الخبرات وعلى التقنية التي كانت تقوم على المتفجرات ربما اكثر من المعلومات، وهذا سبب صعود الخبراء الفنيين في مجال المتفجرات على راس هرم فروع القاعدة منهم ابو ايوب المصري، وزير حرب القاعدة في العراق والذي قتل عام 2010. واستفاد تنظيم القاعدة من اعتراض بعض الطائرات بدون طيار وفي قرصنة المعلومات الالكترونية وفي اختراق الاهداف والخرائط وخبراء اخرين بالسلاح الكيمياوي ابرزه "الجمرة الخبيثة" وهو لايتردد للأستعانة بالضباط السابقين في المؤسسات الاستخبارية ايضا.
وكانت عملية البلوي الانتحارية في 30 ديسمبر 2009 من ابرز العمليات، الذي استهدف فيها تنظيم القاعدة وطالبان مركز "السي اي اية" في خورست ـ افغانستان وراح ضحيته خمس ضباط من "السي اي اية"، وادت هذه العملية في حينها الى تراجع عمل الوكالة وشبكة عملائها باتجاه طالبان والقاعدة .
العملية تصنف استخباريا، باللعبة المزدوجة والتي كانت لصالح القاعدة.
حادثة العقيد احمد النعمة
اعتقلت جبهة النصرة مطلع شهر مايو 2014 في سوريا العقيد أحمد النعمة قائد مجلس درعا العسكري التابع للمعارضة. العقيد النعمة الذي عرف بانتقاده للمتشددين وكان قد إنتقل من الحدود الجنوبية إلى درعا في وقت سابق للعمل على توحيد مقاتلي المعارضة السورية في المنطقة، وقد استثنى جبهة النصرة من هذا الموضوع. إن اعتقال النعمة في طريقه عبر الحدود الجنوبية الى داخل سوريا من قبل جبهة النصرة يمثل خرقا امنيا استخباريا، اي ان النصرة كانت لديها متابعة الى حركة النعمة وجدول زيارته من قبل بواسطة مصادرها داخل" الجبهة الجنوبية" والجيش الحر. ان حصول جبهة النصرة على تفاصيل عن مسؤول بحجم احمد النعمة، يعكس مدى اعتماد النصرة على البيانات والمعلومات اكثر من القدرة العسكرية. يشار إن النصرة ولدت من رحم "داعش" والاخيرة هي من اكثر التنظيمات اعتمادا على الامن والإستخبارت حتى وصفت بشراستها الاستخبارية.
مجزرة ال بو نمر
اعلنت عشيرة البو نمر يوم 31 أكتوبر، عن سيطرة تنظيم "الدولة الاسلامية" على المنطقة، رغم تحذرات سابقة، التنظيم ارتكب مجازر ومقابر جماعية ضد عشيرة ال بو نمر بعد اعدامه اكثر من اربع مائة من المدنيين، رغم هروب الالاف الى المناطق المحاذية الى بلدة هيت، البغدادي، وحديثة ـ محافظة الانبار ومدينة ابو غريب القريبة من العاصمة بغداد. كشفت المصادر من داخل مدينة الانبار ومنها ماجاء على لسان شيوخ ال بو نمر بأن المجازر التي ارتكبتها"الدولة الاسلامية" ضد ابناء ال بو نمر، كانت عملية استخبارية منظمة، بوصول "الدولة الاسلامية" الى مصادر وارشيف وملفات المقاتليين الموجودة في وزارة الدفاع ـ دائرة التسلح والمخزونة على الحاسبات، مما دفع " الدولة الاسلامية بتعقب هذه الاسماء من خلال اقتحامها المدن ونصب السيطرات ونقاط التفتيش لتدقيق اسماء المساقرين. هذه العملية تعكس الطريقة الاستخبارية التي تعمل بها هذه الجماعة باعتمادها الاستخبارات احدى ركائزها التنظيمية الى جانب القدرة العسكرية.
أمن الشخصيات عند الجماعات "الجهادية"
كانت القاعدة وتبعت اثرها "الدولة الاسلامية" تقليد تشكيلات "السي اي اية" بأدارة عملياتها وتنظيمها، فتنظيم القاعدة المركزي بعيدا كل البعد عن حرب العصابات وعن المجموعات المسلحة الاخرى، فتلك المجموعات المسلحة تختلف عن القاعدة باعتمادها العمليات "الجهادية" او التعرضية والتصفية للخصم، التي تكون على شكل تنظيمات صغيرة عكس تنظيم القاعدة و"الدولة الاسلامية" وربما النصرة التي تقوم على اساس حرب المعلومات الاستخبارية. هذه التنظيمات تعتمد على جهاز امن داخل التنظيم والذي يكون مسؤولا عن امن مقاتلية ومتابعتهم واخضاعهم للتدقيق والمراقبة. فهنالك داخل التنظيم سلسلة مراجع ادارية استخبارية، مسؤولة عن امن المعلومات والافراد واعتماد الجهد الاستخباري اي جمع وتحليل المعلومات وتوظيفها، وهي ذات فكرة وكالات الاستخبارات عند الدول. الجنرال باتريوس، ذلك الجنرال الذكي الذي وصف بأنه عراب الصحوات في العراق واحتواء طالبان في افغانستان وترأس وكالة الاستخبارات المركزية، كان يخضع للمراقبة من قبل وكالة امن القومي المعنية بامن الاستخبارات، ليخرج من الوكالة بسبب "طائر سنونو" اي انه ارتكب خطأ في دائرة علاقاته الاجتماعية مع سيدة، دائرة العلاقات، هي الثغرة الامنية وهي اول ما تبحث عنها الاستخبارات المضادة.
وكانت حادثة أبو مصعب الجزائري واحدة من امثلة الخروقات التي تعرضت لها الجماعات، فقد كان حد قادة "جيش المهاجرين والأنصار"الذي ربطته علاقات وثيقة بالاستخبارات التركية، وقبض عليه أمن "جيش المهاجرين والأنصار" بعد خروجه من اجتماع مع عدد من الضباط الأتراك، واتهمه مفتي التنظيم أنه مُخْتَرق من قبل الاستخبارات التركية. ولم يطل رد أنقرة على افتضاح هوية عميلها. وقد شهد تنظيم "الدولة الاسلامية" عمليات خيانة مابعد اجتياحه مدينة الموصل في يونيو 2014، واعلن عن ذلك بينها مسؤول الامن في الرقة، وتم الكشف عن خلايا كردية داخل التنظيم تعمل لاقليم كوردستان العراق.
البغدادي امر باعداما "أبو عبيدة المغربي" المسؤول الأمني في التنظيم ـ الرقة بتهمة الخيانة وكذلك أحمد عاصي ـ قضاء الحويجة في محافظة صلاح الدين .التنظيم يبدأ بنقل قياداته الكورد إلى خطوط المواجهة في كوباني بسبب عدم الثقة بين صفوفه.
بدأ التنظيم بخسر بعض حلقاته من القيادات الميدانبة وظهرت هنالك حالات اختفاء للبعض الاخر خلال الضربات الجوية في اعقاب التحالف الدولي سبتمبر 2014، وهذا يعني ان الجماعات تتجه نحو الضعف والتفكك. إن حالات الاعدامات التي يقوم بها البغدادي داخل التنظيم واعتقال قيادات عسكرية اخرى بدون تهم، خطوة استباقية واحترازية لتجنب الخيانة تعكس حالة القلق والارباك ومن المرجح ان يكون ذلك وراء عدم ظهور زعيم التنظيم واختفائة.
التنظيمات والجماعات "الجهادية" تبدء بحلقة مغلقة وتنتهي بشبكة غير مركزية تشهد خلالها الكثير من تسرب المعلومات والانشقاق، لتبرهن بأنها غير قادرة على الادارة والحوكمة وما تعلنه من ولايات وادارات تبقى افتراضية.
جاسم محمد: باحث وكاتب ومترجم في قضايا الارهاب والاستخبار