حضارة الدولة وفكرة التقدم، في مئة حلقة، مقتبسة من كتاب الحضارة لمؤلفه د. حسين مؤنس، انشرها الأربعاء من كل اسبوع، بغية ترقية الفكر المعرفي لشبابنا ! - ح 1
لا تتمثل الحضارة في عظام المنشآت كالأهرام في مصر او صوارح العمران في بابل، او قصور فرساي في فرنسا او ناطحات السحاب في امريكا، بل هي تتمثل في صورة اوضح واصدق في صغار الاكتشافات التي تقوم عليها حياة البشر. فرغيف الخبز مثلا انفع للبشر من الوصول الى القمر، وبالفعل انفقت الانسانية عشرات الالوف من السنين حتى وفقت الى صنع رغيف الخبز او اناء الفخار.
ونتيجة ذلك انتقلت البشرية من حقبة من التاريخ الى حقبة اخرى جديدة. والعبرة من منجزات البشر بما ينفع اكبر عدد من الناس وييسر لهم اسباب الأمن و الاستقرار. لا
بما يبهر العيون ويرد الانسان الى الشعور بالقلق وعدم راحة البال.
لآن الذين ينفقون الملايين من الدولارات ليهبطوا على سطح القمر، قصدوا اول ما قصدوا الى اظهار امتيازهم على غيرهم وسبقهم لبقية الامم في ميدان تقدم التكنولوجيا العسكرية. وهذا زهو وغرور ينطويان على شر. فهما في الحقيقة تهديد للأخرين. اذ ان الصاروخ الذي دفع مركبة القمر في الفضاء يقوم على النظرية نفسها التي يقوم عليها الصاروخ الذي يعبر القارات ليخرب المدن ويقضي على الوف الناس.
فرغيف الخبز واناء الفخار مقياسان اصدق للتقدم الحق من الوصول الى القمر، لان رغيف الخبز نعمة لا يتأتى منها الا خير.
اما الفخار الذي ابتكرته بلاد سومر، اقدم حضارة انسانية على وجه الارض، قد ادخل على حياة البشر تيسيرا بعيد المدى، وكلاهما نقطة تحول في تاريخ الانسان.
اما الاهرامات، فتعني ان الوف البشر ظلوا يعملون عشرات السنين، طعامهم الخبز والبصل كي ينشئوا قبرا لأنسان واحد.
وقصور فرساي تعني ان جهود الوف اخرى قد صرفت على عمل منشآت يزهو بها ملوك طغاة لم يعرفوا في حياتهم غير الظلم والانانية واحتقار الشعب.
واما نواطح السحاب، فقد ثبت بالبرهان ان العيش فيها يصيب النفس بالكآبة وضيق الصدر وجفاف في الطبع الانساني.
وبهذا العرض الموجز حاولت ان القي الضوء على بعض نواحي تاريخنا الحافل باخبار الحضارة وما يعرض لها من احوال.
ان المفكرين في الغرب وخاصة – فلاسفة عصر الانوار – في العصر الحديث يضعون مشكلة الانسان واحواله وماضيه وحاضره ومستقبله موضع دراسة معمقة. يطلقون العنان للفكر في بحث مشاكل البشر واعادة النظر في كل ما قامت به الانسانية من تجارب في الماضي وفتحت ابوابا واسعة للتفكير والتغيير ومهدوا بذلك لثورة طويلة بعيدة المدى في الفكر الانساني والنظم السياسية والاجتماعية بدا من الثورة الفرنسية وما زالت الى يومنا هذا. ومن هنا فانه لا يمكن فهم حضارتنا اليوم دون الالمام بهذه الاراء وما ينتظر لها من تطور في المستقبل.
فالحضارة في مفهومنا هي ثمرة كل جهد يقوم به الانسان لتحسين ظروفه الحياتية، سواء كانت الجهود مادية او معنوية. وهذا المفهوم للحضارة مرتبط اشد الارتباط بالتاريخ
فعندما وجدنا رغيف الخبز في مقابر الفراعنة، عرفنا ان وراء هذا القرص تاريخا طويلا. وعندما درسنا احوال المجتمعات البدائية الباقية الى اليوم، عرفنا صفحات طويلة من ذلك التاريخ. انهم كانوا يعرفون القيمة الغذائية لسنابل القمح التي توجد برية بين الحشائش، فكانوا ياخذون القمح من السنابل ويأكلونه كما هو، ومنهم من كان يجمع هذه السنابل حصدا، ومنهم من زرع القمح وحصده، واكله حبا، لكن القبائل بدأت تجرشه قبل ان تاكله، وهناك قبائل تطحنه وتأكله دقيقا او تذيبه في الماء، هكذا حتى وصلوا الى القبائل التي تصنع الخبز. فاذا كان عمر الانسان على وجه الارض يرجع الى ثلاثمائة الف سنة على اقرب الاراء الى الصحة، فان لكل من هذه القبائل مكانها على هذا الطريق الطويل الذي يحكيه رغيف الخبز.
مقالات اخرى للكاتب