تمهيد
يمثل موضوع النخبة الحاكمة العصب الحساس في أي نظام سياسي ، لما له من قدرة على إدارة البلاد وتلبية طموحات مواطنيها . كما ينتمي هذا الموضوع إلى مواضيع علم الاجتماع السياسي الذي أهتم بدراسة النخبة وطبيعة علاقاتها مع القوة السياسية . وتكمن اهمية الكتابة في هذا الموضوع وربطه بالعراق عائد إلى طبيعة الموضوع الخاص بالتخصص السياسي ، ولأشباع فضول الكاتب في الكتابة تزامناً مع طبيعة الاحداث السياسية التي يمر بها العراق ، وفتح باب النقاش حولها .
فالنخبة الحاكمة تعني مجموعة من الأفراد تمارس السلطة فعلياً ويؤثر افرادها على القرارات السياسية بشكل يتصف بالثبات والاستقرار ، ويمكن ملاحظته بسهولة . حيث تستمد النخبة الحاكمة القدرة على التأثير من طبيعة المناصب التي يشغلونها في الدولة . وهذه النخب هي في الغالب قليلة العدد ، تتمتع بنفوذ سياسي وقوة سياسية وبمزايا اجتماعية رفيعة بناءاً على مركزها السياسي في الدولة والاجتماعي المتميز في المجتمع . وهذه النخبة هي التي تسير شؤون الطبقة المحكومة وتخضعها لتوجيهاتها .
فالنخبة الحاكمة هي جماعة تمتاز بالدرجة العلمية والثقافية العالية ، ومن حملة الشهادات العليا ، ويشار لهم كاصحاب احتراف في مجال العمل السياسي .
ولو اخذنا هذه الافكار البديهية التي تتمتع بها النخب الحاكمة وطبقناها في العراق سنجد الأمور مغايرة ومعاكسة إلى حد بعيد شأنها شان الوضع العراقي برمته بعد (2003م) . فالسمات الاساسية للنخبة الحاكمة لا تنطبق على (نخب) العراق اليوم والتي نجدها بعيدة عن معايير العقلانية المميز لسلوك النخبة . فسمات النخب الحاكمة في العراق منذ التغيير السياسي الذي تم بفعل التدخل الخارجي لا تبتعد كثيراً عن السمات الأتية :-
1- شخصنة الدولة والمؤسسات
في العراق نجد أن شخصنة السلطة والدولة وبمؤسساتها المتعددة أمر شائع من حيث أختزال البرلمان بشخص الرئيس تارة ، وتارة بطوئفة المنصب ، وهذا الحال لا يختلف كثيراً عن رئاسة الوزراء أو مؤسسة رئاسة الجمهورية واختزال الوزارات بأسم وزرائها ، فتجد عبارة الرمز الوطني ومعالي دولة الرئيس وفخامة الرئيس يسبق اسمه وتشخص سلوكياته ومواقفه في تلك الرموز . ولا يخفى على أحد ما قد ينتج عن ذلك من إرهاب فكري من قبل اصحاب الشخصنة تجاه خصومهم السياسيين او عامة الشعب في حال توجيه سهام النقد لهم . وهذه الحالة هي بحد ذاتها أمر باعث على الفساد والتجاوز على المال العام ، وتحويل النظام السياسي والقانوني بمؤسساته المتنوعة من نظام قانوني إلى نظام خاضع للإرادة الشخصية المتسيدة على قمة هرم الدولة . فالنظام المشخصن لا يمتلك أي قدرة على التجديد الذاتي وانما الإبقاء على نفس الوجوه والتغيير الحاصل يحدث فقط في المراكز الوظيفية وهو ما يحصل وسيحصل في العراق .
2- الثقافة السياسة التقليدية
ان البحث في طبيعة الثقافة السياسية للنخب الحاكمة في العراق يتيح لنا معرفة درجة التفاعل والانسجام بين النظام السياسي والإطار الاجتماعي في العراق ، فالثقافة السياسية هي مجموعة من الاتجاهات والمعتقدات والقيم التي تعطي معنى للنظام السياسي ، والتي بدورها تؤثر على السلوك السياسي لتصرفات الافراد داخل النظام السياسي . وبقدر تعلق الامر بثقافة النخب الحاكمة العراقية نجدها ثقافة سياسية قائمة على التنوع المتنابذ المتنافر لا التنوع الهرموني المنسجم ، ثقافة النخب العراقية ثقافة حسم اجساد لا حسم احقاد ، ثقافة حسم لا ثقافة تسوية . وهذا الامر يبين لنا طبيعة الثقافة السياسية لتلك النخب وهي ثقافة تقليدية سلبية وعلى اساسها تمارس تلك النخب نشاطها السياسي . هذه الثقافة كان لها الدور الأبرز في تعزيز الولاءات الفرعية الطائفية والحزبية الضيقة ، واعطائها العلوية في تحديد الأنتماءات السياسية كتحول سياسي ايجابي شهده العراق.
3- الافتقار الى المشروع الوطني للانجاز
أن النخب الحاكمة في العراق لا تمتلك استراتيجية ذات بعد وطني شامل ومؤسسي وبمنظور علمي ، فلم تقدم لنا تلك النخب أنجازاً سياسياً واحداً يستحق الاشادة والاشارة اليه ، بل العكس نجد تراكم للازمات السياسية الواحدة تلو الاخرى وتشكيل لجان لحلها دون ان تقدم أي شيء جديد .
ان هذه النــــــــــــــــــخب ومنذ 9/4/2003 م لم تمتلك اي مشروع وطني حقيقي يساهم في اعادة بناء الدولة العراقية من جديد وفق متطلبات النهوض والتحول الديمقراطي ، حيث شهدنا مشروعا خاصاً بتلك النخب قائماً على التوزيع المحاصصاتي للمناصب وتوزيع المكاسب دون ان يكون للمواطن العراقي أي نصيب يذكر . فالمشروع الوطني الذي تبنته تلك النخب بعيد عن ثوابت المصلحة العامة للشعب العراقي ، فهي تجيد اللعب تحت شعار المشروع الوطني لأدامة سيطرتها على مفاصل الدولة بعيدة عن مسميات الوطن والشعب والوطنية . أن تلك النخب تمتلك رؤية وخبرة ووعي وهذا لا ننكره لكنها استخدمت تلك الخبرة والرؤية وذاك الوعي في مجال خداع المواطنين العراقيين واستقطابهم طائفياً وفقاً لمتطلبات مصلحتهم الخاصة . فتلك النخب عنوان مشروعها الوطني التخندق الطائفي .
4- ضعف الخبرة الاقتصادية
منذ (2003م) وحتى اللحظة لم تقدم لنا النخب العراقية الحاكمة سياسة عامة اقتصادية صحيحة تنشل العراق من البطالة والفقر وضعف الدخل ، فمن يدقق في برامج تلك النخب على الصعيد الاقتصادي سيجد المنهاج النظري شيء والتطبيق شيء آخر ، فمن تولى عجلة الاقتصاد وادارة الثروات في البلاد لا يمتلك خبرة في ادارة الملف الاقتصادي العام للدولة ، ويفتقر إلى الإجراءات الكفيلة التي تجعل المواطنين العراقيين اكثر رفاهية واستقرار ، لكن الذي نجده هو امتلاكه لخبرة في مجال عمله الحزبي فقط .
هذا الامر انتج لنا نخب لم تستطع في علاج البطالة والفقر في العراق ، ولم تستطع للحد من استشراء الفساد ، لم تستطع من توظيف الكفاءات واصحاب الخبرة في ادارة الاقتصاد العراقي ، كل هذه الامور تعطينا فكرة عن مدى الضعف والعجز الاقتصادي لتلك النخب عن ادارة الملف الاقتصادي .
5- غياب التواصل مع المواطنين
أن من أبرز ملامح وسمات النخب الحاكمة في العراق غياب التواصل مع مواطنيها وناخبيها ، فمن الدقة القول ان ضعف التواصل هذا أن لم نقل انعدامه في الكثير من الاحيان يتحمله بنسبة معينة الناخب العراقي ، فهو الذي اوصل هؤلاء إلى السلطة واعادة انتخابهم من جديد ، وهؤلاء أي النخب مشغولة بالمناكفات والتسقيط السياسي والتصعيد الاعلامي مع بعضهم البعض دون ان يقفوا وقفة وطنية مع الشعب ، فلم يقدم التاريخ لنا مسؤولاً عراقياً زار دائرته الانتخابية للتعرف على هموم المواطنين وحل مشاكلهم إلا في حالة قرب الانتخابات في احسن الأحوال .
6- الافتقار إلى قوة القرار السياسي وضعف الانجاز السياسي ، وافتقار تلك النخب إلى التجانس السياسي والايديولوجي ، بل يوجد في فيما بين النخب العراقية تنافس محموم للحصول على المكاسب الفردية واضافة الشرعية عليها .
7- في النظم الديمقراطية عادة ما تكون دورة النخب الحاكمة فيها سريعة مما يشكل تلاقياُ واضحاً بين نظرية النخبة الحاكمة والديمقراطية ، لكن في العراق تجد أن سلوك النخبة الحاكمة فيه أقرب إلى التمسك بالمنصب مما يجعلها أقرب إلى فلسفة الاوليغارشية (الأقرب إلى المنفعة المادية) .
8- ان النخب العراقية وعلى ما يبدو تعاني ازمة هوية وطنية ، تعاني ازمة في الشرعية (شرعية الانجاز والتواصل لصالح المجتمع) ، تعاني ازمة في ادارة البلاد وعدم قدرتها على ادارة المؤسسات على نحو سليم ، تعاني ازمة في رسم تفاعلات سياسية جديدة بين القوى السياسية المختلفة ، تعاني ضعف الاستجابة لمطالب الشعب وتمثيلها سياسياً .
كل هذه السمات تعطيك انطباعاً على مدى فقر النخب الحاكمة العراقية في أدارة دولة هامة مثل العراق ، وان الطريق امام الشعب العراقي لا زال طويلاً في احداث التغيير المنشود .
مقالات اخرى للكاتب