مع بداية تسعينيات القرن العشرين وفي غمرة الاحتفال العالمي بانتصار الديمقراطية الكبير الذي روج له العديد من كبار المفكرين الغربيين وفي مقدمتهم فوكوياما،، خرج علينا المفكر الفرنسي جان ماري جيهينو بكتابه الشهير (نهاية الديمقراطية)، وتحدث في الكتاب ان المستقبل العالمي يحمل في طياته نهاية السياسة. اذ تتحول الحكومات الى ضريح سياسي حيث الازمات تمسك بتلابيب ممارسة السياسة والسلطة من جانب الحكومات في مختلف مناطق العالم. ويرتبط بهذا التطور تراجع اقبال الناخبين في معظم الانتخابات التي تجريها الدول على نحو كبير، في الوقت الذي صارت تعاني الاحزاب التقليدية من هزات عنيفة تجعلها تتنحى جانبا، بينما يزداد تأثير المال في السياسة حيث تنفق الملايين واحيانا مليارات الدولارات في الحملات الانتخابية. وفي خضم سطوة المال وصعود تأثيره السياسي صار حكم القانون يتراجع فيما يتصاعد دور شبكات الفساد والجريمة والميليشيات ليهيمن على العملية الانتخابية وما يرتبط بها حتى بدت الديمقراطية انها تعاني من الاحتضار. وفي سياق هذه الاجواء أصبح السعي إلى تحقيق الصالح العام يبدو سلوكاً غريباً إلى حد يدعو للحزن والغثيان في آن واحد. ومن الطبيعي والحال كذلك ان يتراقص في حلبة المنافسة السياسية المغامرون والسرسرية واللصوص والفاسدون والمتعصبون للوصول الى قمة السلطة.
وغالبا ما أدى غياب الصالح العام الى اختناق الدولة وبروز اصحاب الدعوات الاختزالية سواء كانت طائفية او عنصرية او قومية متعصبة او حتى عشائرية ضيقة، وصاروا يتسيدون المشهد ويكسبون الاسهم في سوق الانتخابات التي ضاق فيها عدد المهتمين. والمهتمون في كل الاحوال هم ساعون وراء تحقيق النزعة الانانية والمصالح الذاتية التي أضحت تميز عصرنا، ولان الحاجة البشرية تبقى عميقة الى انتماء الافراد الى جماعات ومع بروز الوضع الاجوف للمشاريع الوطنية بدأ الساسة المتعصبون من الطائفيين والعنصريين والاصوليين يعانقون السرسرية والفاسدين والمجرمين ليتحالفوا معهم للسيطرة على العباد ونهب قوتهم وثرواتهم والاستحواذ عليها.. وكان الارهابيون المقابل لاولئك الفاسدين والسرسرية والمجرمين والمتعصبين. وقد استفاد الارهابيون من الاوضاع العالمية وحالة التذمر والاستياء من الاختناقات السياسية للترويج لوجودهم، كما استفادوا من السيولة الاتصالية التي وفرها التقدم التكنولوجي والوفرة المعلوماتية والاعلامية للوصول الى كم بشري واسع والتلاعب بمدركاته،، لا سيما وإن أكثر من نصف سكان العالم يعيشون الآن في المدن، ويبدون أكثر تحفزا وتمكنا للمشاركة السياسية ولكن في ظل غياب المصداقية السياسية وتضاؤل الحيز الذي تشغله المشاريع الوطنية صار من السهل التلاعب بمدركات عدد كبير من سكان العالم ودفعه باتجاه السخط على السائد وبالتالي التشبث بكل المحاربين للانقضاض على الاوضاع السائدة حتى لو كانوا منحرفين وارهابيين او متعصبين او طائفيين او عنصريين..
مقالات اخرى للكاتب