يشدك دوماً لحديث الطف انه حديث ملئ بالحياة ينبض بالأحاسيس و ان لكل شخص من شخوصه قصة تستحق الوقوف و التأمل .. و تستدعيك مرغما او متلهفا ان تعيشها و تحس بمشاعر صاحبها .. تضع نفسك مكانه وتتخيل وقع الأحداث عليه .
ان الدراما في شخصيات الطف .. دراما ذات وهج خاص .. محيرة و مليئة بما يخالف الرياضيات و منطق حساب الأشياء . خصوصا اذا كان هذا المنطق لا يدرك انه يتعامل مع بشر من لحم و دم .
زهير بن القين ذلك الرجل البجلي الشريف في قومه و الذي لم يعرف عنه اي تشيع لأهل البيت في سابق حياته بل كان يعد من وجوه العثمانية و هو تعبير شاع في توصيف من كان مناوئا للثوار على عثمان بن عفان يرى غير رأيهم .
و لعل أوجز ما يدل على سيرة زهير قبل الطف هو ما خاطبه به عزرة بن قيس المجرم في كربلاء حين قال
"يا زهير ما كنت عندنا من شيعة هذا البيت إنما كنت عثمانيا . "
زهير و من حسن حظه و قدره ان الله جعل طريق عودته الى الكوفة و طريق الحسين ع واحداً . و كان زهير و معه بعض من عشيرته يتجنبون ان يجمعهم و الحسين ع مكان واحد او ان ينزلوا ذات الماء في الطريق .
فظل زهير يؤخر قافلته تارة عن الحسين او يقدمها طوراً و كأنه يهرب من المواجهة و لا يحبذ الاجتماع معه .
ان هذا الامر يكشف عن صراعا كان يعتمل في نفسه صراع بين سلامة طويته و حلاوة روحه و بين ما عاشه ردحا من الزمن ملازماً لرأي اعتنقه و طريقة اتخذها .
حتى شاءت المقادير التي لا بد منها ان يجتمع الركبان في موضع يقال له زرود
يصف احد الشهود الامر قائلا
" فنزل الحسين في جانب ، ونزلنا في جانب ، فبينا نحن نتغذى من طعام لنا ، إذ أقبل رسول الحسين فسلم ودخل ، فقال : يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منا ما في يده حتى كأن على رؤسنا الطير ."
أَرَاد زهير التملص من الذهاب و لكن زوجته العظيمة ( دلهم )قالت له ما تقوله الحرة المؤمنة لزوجها :
" أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ! سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت "
لقد ذكرته دلهم بأهم ما في الحكاية ( حكاية الاسلام ) ذكرته رسول الله ..محمد صلى الله عليه و اله .. ذكرته من يمحض له الود وحده و يخلص له الحب وحده .. ذكرته ان الاسلام هو محمد ص قبل كل شئ
قبل أهوائنا و ميولنا و اتجاهاتنا و ان حسين هذا عليه السلام هو ابن رسول الله و امتداده .
ان عاطفة زهير للرسول ص صادقة ايما صدق و لولاها ما تجاوز عقده و آرائه .
ان حب زهير للرسول ص واضح في كل عباراته بعد ذلك
انظر جوابه لعزرة بن قيس :
" أما والله ما كتبت إليه كتابا قط ، ولا أرسلت إليه رسولا قط ، ولا وعدته نصرتي قط ، ولكن الطريق جمع بيني وبينه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومكانه منه ، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم : فرأيت أن أنصره ، وأن أكون في حزبه ، وأن أجعل نفسي دون نفسه ، حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله ."
لقد كان زهير محبا مخلصا لرسول الله ص رغم انه لم يره و لم يحظ بلقياه أبداً لكنه كان يعيش معه ليل نهار في قلبه النقي و وجدانه الصافي .
انظر اليه و هو يخاطب معسكر القوم و يرجو منهم ان يخلوا سبيل اهل بيت رسول الله
" إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّد(صلى الله عليه وآله) لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد"
و انظر اليه و هو يخاطب الحسين ع
والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة ، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك .
و كان اخر حديثه الى الحسين ع ارجوزته التي قال فيها ما يكشف عن أمنيته :
" اليوم ألقى جدك النبيا "
زهير بن القين اختصر على نفسه لغة القيل و القال و طرح كل ما بين يديه من اهواء رغبة لامر واحد
و كأنه قد وعى الآية في سُوَرة التوبة تماما
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
عندما خطب زهير في قومه يوم عاشوراء جزاه الحسين ع خيرا و أرسل له من يقول له :
يا زهير إن أبا عبد الله يقول لك : أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء ، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ ،
فانصرف راجعا الى المخيّم آيسا من قومه ان يفهموا الدين كما فهمه هو و ان يحبوا رسول الله ص كما احبه هو
لا أشك أبدا ان رسول الله ص سيمن على زهير بعناقه كما يعتنق الوالد ولده يوم لا ينفع مال و لا بنون
و اعتقد ان هذا هو غاية امنيات زهير رضوان الله عليه .
مقالات اخرى للكاتب