غالبا" ما اقترن مفهوم الطبقة الاجتماعية بظاهرة الصراع الطبقي التي شهدها المجتمع الأوربي عشية انطلاق الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر ، على خلفية الانشطار الاجتماعي والاستقطاب السياسي والتخندق الإيديولوجي الحاصل في بيئة المجتمع الغربي آنذاك ، تعبيرا" عن اختلاف المصالح وتصادم الارادات ، متضمنا" في الوقت ذاته دلالة رمزية تستدعي خصائص التسلسل في المرتبة الاجتماعية ( عليا ، وسطى ، دنيا ) أو مزايا التدرج في الثراء الاقتصادي ( أرستقراطية ، برجوازية ، عمالية ) . ومع إن غالبية البحوث والدراسات المهتمة بحقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ سهلت إدخال ذلك المفهوم في بنية الخطاب السياسي ، وساعدت على توطينه في منظومة الوعي الاجتماعي ، سواء عن طريق ترويج خواصه وتسويغ مضامينه من قبل مؤيديه ومناصريه ، أو التعرض له بالنقد والتجريح من لدن خصومه ومناهضيه . فان النظرية الماركسية تكاد أن تكون وحدها من أسبغت عليه دلالة اجتماعية واضحة وأنيطت به وظيفة سياسية صريحة ، تجاوزت من حيث الواقعية في الطرح والعمق في التحليل جميع الإسهامات الفكرية السابقة التي تناولت جوانبه المتنوعة منذ جمهورية أفلاطون وحتى يومنا هذا . حيث ظل لصيقا"بمفهوم ( النخبة ) الليبرالي وما ينطوي عليه من دلالات طبقية ضيقة وما يوحي به من تصورات استعلائية مستهجنة . وبصرف النظر عن الإجماع الذي توصلت إليه مدارس الفكر السياسي والاجتماعي وما تفرع عنهما من أفكار ونظريات ، حول البداية التاريخية لارتباط مفهوم الطبقة بالواقع الاجتماعي الذي أفرز خصائصها ، فضلا"عن محاولات ترسيم الحدود المتعلقة بالمكانة التي تشغلها في بنية ذلك الواقع ، إلاّ أن عهد الثورة الفرنسية عام 1789 وما تمخض عنها من معطيات سياسية وتداعيات اجتماعية ومؤثرات ثقافية ، كانت بمثابة الباكورة التي حملت صياغة هذا المفهوم ، وشكلت المنعطف الذي أباح تدشين استخدامه ، وبالتالي ، شيوع توظيفه كأداة معتمدة للتحليل السوسيولوجي .
وعلى خلاف ما تواضع عليه رواد الفكر الاجتماعي العالمي بمختلف اتجاهاته اليمينية واليسارية حول ضرورة التعاطي مع ظاهرة انزياح المعاني وحراك المفاهيم وانثيال الدلالات ، بما ينسجم وطبيعة التحولات الجذرية التي طالت البنى الاجتماعية والأنساق المعرفية والهياكل الاقتصادية والعلاقات السياسية والمنظومات الثقافية ، فان الأخطاء المنهجية التي يعاب على الفكر العربي المعاصر التورط فيها ما برحت رابضة بين ثنايا عناصره ومكوناته عبر استمرار تعامله مع مفهوم الطبقة الوسطى من منظور مثالي ضيق ؛ حاشرا"إياه ضمن حدود مواقف وأخلاقيات البرجوازية التي رغم تعرضها لهجاء الفكر الماركسي وسياط نقده اللاذعة ، إبان فترة صياغة كتاب (رأس المال) ، إلاّ انه لم يهمل – من منطلق علمي موضوعي – الإشارة إلى أهمية دورها التاريخي ويشيد بوظيفتها الاجتماعية ، حين كان رواد النظرية الليبرالية الأوائل يقارعون مخلفات العصور الوسطى وافرازات عهد
الإقطاع . لا بل ان الشك بمرامي تلك الطبقة وسوء الظّن بطويتها ، ذهب ببعض الكتّاب العرب إلى الاعتقاد بأن اللحظة التي برزت فيها طلائعها على المسرح السياسي ، لم تكن لتخلو من الاقتران بالسعي المحموم لأطماع الثراء الاقتصادي ومكاسب الجاه الاجتماعي وسلطان النفوذ السياسي ، دون أن تخالجها أية اعتبارات تتعلق بالمثل الإنسانية أو القيم الأخلاقية ، كما كان الحال على أيام طبقات النبالة البائدة ، معتبرا"ان ((لهذه الطبقة نظرة مختلفة عن نظرة النبلاء ، فالدهماء عندها للاستغلال وليس للتربية الفنية والأدبية ، [ كما ان] هدفها هو المال والسلطة والقمع وليس الحق والخير والجمال ... وهذا ما يحدد لها سياستها على مدى التاريخ ، سواء في النظم والقوانين أم في القمع وفرض السلطة بالقوة ))(1) .
ومما لا ريب فيه أن جميع الطبقات الاجتماعية ذات المنزع السياسي تميل بالفطرة – ان صح التعبير – صوب غواية السلطة التي يستلزم الإمساك بناصيتها والاحتفاظ بأعنتها ، انتهاج مختلف ضروب الممارسات والفعاليات التي تبتدئ بلغة الخطاب الإيديولوجي الهادئ وتنتهي بأسلوب الصراع السياسي العنيف . الأمر الذي يضفي على مواقف تلك الطبقات ويسم أهدافها بطابع البرغماتية/ النفعية ، تعبيرا"عن تقاطع الارادات وتناقض الغايات وتعارض المصالح . ولأن المجتمع ، أي مجتمع ، هو بالإجمال حصيلة علاقاته البينية وصلاته المتبادلة القائمة على وقائع التنوع وحقائق الاختلاف ومظاهر التعدد ، فان آليات اشتغال ذلك المجتمع وسياقات تطوره لا ترتبط بأوهام بلوغ التجانس القسري وخرافات تحقيق الوحدة المزعومة ، بقدر ما تتعلق بأنسنة ذلك التنوع وعقلنة تلك الاختلافات وشرعنة تلك التعددية . لذلك فان العيب لا يتأتى من جانب الطبقة الوسطى حين تبدي اهتمامها بممارسة العمل السياسي أو تعلن عن تطلعها للانخراط في السلطة ، بل من حرمانها ممارسة ذلك الحق ، والحيلولة دونها والمجتمع الذي يحتاج لإسهاماتها في النهوض من كبوته والاستعانة بقدراتها للخروج من محنته . وهنا تبرز جليا" الوظيفة العضوية للطبقة الوسطى ويظهر دورها التاريخي لا في بلدان العالم المتقدم حيث فقدت ملامحها وشذبت طبيعتها وتنوعت مصادرها وتداخلت مرجعياتها ، وإنما في بلدان العالم المتخلف حيث تعاني القمع السياسي والتغييب الاجتماعي والتهميش الثقافي ، ليس فقط بسبب اجتيافها لقيم الإصلاح في التحولات البنيوية والتدرج في التغييرات الاجتماعية – وهو ما تؤآخذ عليه عادة - وإنما بحسب ما أضحت تمثله من خيارات مصيرية ملحة ، وما تحمله من تطلعات مستقبلية مشروعة . استنادا"لما تتوفر عليه من خبرات علمية متطورة ومهارات فنية متقدمة ومعارف إنسانية واسعة ، بات أي مجتمع يحترم حقوق أفراده ويحرص على مستقبل أجياله لا يستغني عنها ولا يتوانى في السعي إليها . كما إنها (= الطبقة الوسطى ) ، فضلا"عن ذلك ، تتمتع دون سائر الطبقات الأخرى بمزايا الوعي النقدي وخصائص الإدراك الواقعي وصفات التصرف العقلاني . الأمر الذي انتدبها الوضع السياسي والمرحلة التاريخية ليس فقط لتخطي أعباء ومعوقات تفوق صعوباتها أضعاف ما كانت تعانيه نظيرتها الأوربية حين تمكنت ، بعد صراعات مضنية ، من وضع المجتمع بشقيه السياسي والمدني على المسار التاريخي الصحيح فحسب ، بل والتصدي لمهام قيادة المجتمع وتسيير شؤونه وتحديد اتجاهاته وتجديد قيمه وتغيير منطلقاته ، لاسيما وان غالبية طبقات المجتمع وشرائحه لا زالت تعاني حالات النكوص في الوعي والتفكك في التنظيم ، مما أستتبع مفاقمة الاستبداد السياسي ومضاعفة التذرر الاجتماعي وزيادة الخراب الاقتصادي واتساع التصحر الثقافي ولهذا ، وبرغم مواقفه المتشددة حيال سلوك الطبقة البرجوازية (الوسطى) وتذبذب سياساتها ، فقد توسم المبدع (لينين) بفضائل وعيها خيرا"إزاء قضية الثورة الاشتراكية ، عندما أكد في كتابه ذائع الصيت (ما العمل ؟) ، مراعيا"ظروف الواقع الاجتماعي وطبيعة المرحلة التاريخية في ذلك الوقت ، على انه (( لا يمكن للعمال أن يحصلوا على الوعي الاشتراكي إلاّ من خارج نطاقهم . ولنا في تاريخ جميع البلدان شاهد على ان الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكسب بقواها الخاصة فقط غير الوعي التريديونيوني ، أي الاقتناع بضرورة الانتظام في نقابات والنضال ضد أصحاب الأعمال ومطالبة الحكومة بهذه أو تلك من القوانين الضرورية للعمال ، الخ .. أما التعاليم الاشتراكية ، فقد انبثقت عن النظريات الفلسفية والتاريخية والاقتصادية التي وضعها المتعلمون من ممثلي الطبقات المالكة ، وضعها المثقفون ))(2) ، مقتفيا"بذلك أثر أحد أبرز شّراح النظرية الماركسية (كارل كاوتسكي) الذي اعتبر من جانبه أن (( الوعي الاشتراكي عنصرا"يؤخذ من الخارج ، وينتقل إلى نضال البروليتاريا الطبقي ، لا شيء ينبثق منه بصورة عفوية ))(3) . وهو ما يمكن الاسترشاد به والاعتماد عليه لتقييم الأوضاع الحالية ودراسة الظروف المستجدة ، بخصوص التأكيد على أولوية بناء أسس الطبقة الوسطى والعمل على إعادة ترميم منظومة وعيها والسعي لتوطين قيمها ، بعد أن تراوحت على تحطيم كيانها واستئصال شأفتها جميع أطياف الأنظمة السياسية التي تعاقبت على سدة الحكم مابين أقصى اليمين إلى أقصى اليسار .
وهكذا فان حاجة بلدان العالم المتخلف – والعراق واحدا"منها - لوجود الطبقة الوسطى ، كفاعل اجتماعي مؤثر تنبع من حقيقتين ؛ الأولى وهي ان طبيعة المهام الموكولة لها في خضم التغييرات الكبرى التي تشهدها المعمورة ، قد تعرضت لانزياحات شديدة طالت بتأثيراتها الحقل الوظيفي الذي كانت تمارس من خلاله أنشطتها المتنوعة ومهامها المتعددة ، تساوقا"مع تحولات نمط الإنتاج الرأسمالي التي عكست طبيعة الانتقال الكيفي لآلياته من الطابع الإنتاجي/السلعي الملموس إلى الطابع المعرفي/الرمزي المجرد . إذ ان (( عالم العمل ، ودراما الإنتاج الاقتصادي ، والأساس الجوهري لوجودنا المادي الذي يسيطر عليه منذ عدة قرون قوى الصناعة العمياء ، أصحت تسيطر عليها الآن منتوجات وعمليات تتألف من العقل أكثر مما تتكون من المادة ))(4) . بحيث لم تعد وظائف تلك الطبقة مرتبطة بدلالة ملكية وسائل الإنتاج أو استبطان عناصر الوعي البرجوازي . بمعنى ان طبيعة العلاقة المفترضة مابين قطبي أسلوب الإنتاج ( القوى والعلاقات ) اتخذت منحا" جديدا"أتسم بغنى الروابط وثراء الصلات وكثافة التفاعلات ، لافي المنشط الاقتصادي وما يستتبعه من توزيع مغاير للمراكز السياسية وتدوير مباين للعلاقات الاجتماعية فحسب بل وفي المناشط الإنسانية كافة . الشيء الذي يستلزم تطوير أساليبنا المنهجية وتجديد عدتنا المعرفية وتوسيع حقولنا الادراكية ، التي ما برحت لا تنظر للطبقة الوسطى إلاّ من خلال مصالحها الطبقية الضيقة ، ولا تتعامل معها إلاّ بمنظار وعيها البرجوازي المزيف . في حين إنها مدعوة ، بحكم الضرورة التاريخية ، للعب ذات الدور التحويلي التنويري الذي لعبته في حينها البرجوازية الأوربية إبان نضالها من أجل تأكيد وجودها وتعزيز سلطانها وإقامة نظامها ، مما جعلها تستحق ثناء البيان الشيوعي الذي وصفها بأنها (( لعبت في التاريخ دورا"ثوريا"للغاية))(5) . والاّ فان مظاهر العنف وعواقب التخلف ستبقى الخيار الوحيد المطروح أمام من يخفق في اهتبال فرص الإفلات من المآسي والنجاة من الكوارث . أما الحقيقة الثاني والأهم – باعتقادنا – فهي ان غالبية المجتمعات المخترقة هي بالأساس مجتمعات زراعية متخلفة ، وان معظم القيادات السياسية التي تهيأت أمامها ظروف الاستيلاء على السلطة والإمساك بزمام النظام السياسي هي من أصول ريفية تقليدية أستبطنت قيم التعصب القبلي واستوطنت علاقات المغالبة العشائرية . وهو ما سيظهر لاحقا"على شكل صراعات سياسية مستمرة وتمزقات اجتماعية مستديمة ، سوف لن تحسم نتائجها إلاّ باللجوء إلى خيار الانقلابات العسكرية وإصدار البيان رقم (1) ، حيث غدت ظاهرة مألوفة في حياة هذه المجتمعات الموبوءة . وبدلا" من أن تلجأ إلى تغيير الأوضاع الاجتماعية المتردية وتحسين الظروف الاقتصادية البائسة وتثوير المنظومات الثقافية المعطلة ، عمدت تلك الشرائح المتحضرة شكلا" والمتريفة مضمونا"، ليس فقط إلى تكريس تلك الأوضاع والإبقاء على تلك الظروف والمحافظة على تلك المنظومات فحسب ، بل إنها شرعت بنقل وتطعيم كل ما تحتكم عليه من عادات بالية وتقاليد مهترئة إلى داخل بيئة النظام المديني والحضري الذي بدأ يتشكل لتوه عقب حصول الاستقلال واستئناف دورة النشاط العصري ، وهو الأمر الذي أفضى إلى عسكرة أغلب مرافق المجتمع وترييف قيمه وتطييف علاقاته وتزييف معتقداته ، وأعاق ، من ثم ، بشكل جدي ظهور طبقة وسطى تتحلى بالنضوج الفكري والمسؤولية الوطنية ، وإلزامها ، فضلا"عم ذلك ، بالتخلي عن دورها التاريخي والابتعاد عن وظيفتها الحضارية . ذلك لأنه ما من شيء
يقلق السلطة المتريفة ويثير مخاوفها ، مثلما تسببه الطبقة الوسطى لها ، على خلفية ما تضمره من أهداف وما تشيعه من قيم وما تستدعيه من ممارسات . واليوم وقد آلت الأوضاع في العراق إلى ما هي عليه من انهيار لسيادة الدولة وسقوط لرموز النظام وفقدان لهيبة القانون وانحسار لوازع القيم ، بات من الضروري ، لا بل من المصيري أن يصار إلى إحياء كل ما يمت بصلة لخصائص هذه الطبقة المنقذة ، وجعلها نواة حية لتكوين ( كتلة تاريخية ) ينظوي تحت لوائها كل الخيرين من أبناء شعبنا ، ممن يتطلعون لبناء عراق قوي مستقل ينعم بأسباب الأمن والاستقرار والتطور.
المصادر
(1) حنا عبود ؛ نظرة مغايرة في (الطبقة الوسطى) وتراثها . مجلة حوار العرب ، العدد/ 12 نوفمبر(تشرين الثاني)
2008 ، ص8 .
(2)لينين ؛ المختارات في 10 مجلدات ، المجلد / 2 . ( موسكو ، دار التقدم ، 1975 ) ، ص44 .
(3) المصدر نفسه ؛ ص55 .
(4) ولتر ب . رستون ؛ أفول السيادة : كيف تحول ثورة المعلومات عالمنا . ترجمة سمير عزت نصار وجورج خوري . ( عمان ، دار النسر للنشر والتوزيع ، 1994 ) ، ص 18 .
(5) ماركس وانجلس ؛ بيان الحزب الشيوعي . ( موسكو ، دار التقدم ، 1968 ) ، ص40 .
مقالات اخرى للكاتب