"شعرت بنشوة عندما أطلقت النار عليه, وهذا ما لايمكنني تحمله" هذا ماقاله المحارب البولندي السابق" ميخاو" الذي شارك في مهمات قتالية في افغانستان والعراق, معبراً عن مشاعره المتناقضة.
گـراژينا ياگيلسكا زوجة مراسل حربي وكاتبة, كانت ضحية لحالة العصاب التي تصيب المقاتلين في مناطق الصراع التي تدعى " الاجهاد القتالي ". دفعت ضريبة الغياب المستمر لزوجها في أصقاع العالم المضطربة, مترقبة مع كل رنّة تليفون, ابلاغها بخبر مصرعه, وخضعت للعلاج النفسي مع مجموعة من المحاربين العائدين من افعانستان والعراق, وتجاوزت الازمة. وخلال فترة تواجدها في " عيادة الطب النفسي ومكافحة الاجهاد القتالي ", كانت هي الوحيدة التي قررت سبر اغوار عوالم ضحايا الحرب هؤلاء, والذين يحاولون مقاومة شيطان الحرب في دواخلهم, من خلال لقاءآتها بهم والكتابة عنهم, وقد أثمر جهدها بتأليف كتاب " الملائكة تأكل ثلاث وجبات يومياً, 147 يوماً في مستشفى الأمراض النفسية ". تقول ان الحديث معهم كان شاقاً, وكل محاولات استدراجهم في الحديث واستنطاقهم ودفعهم للاسترسال في سرد ذكرياتهم ومشاعرهم من قبل المعالجين النفسيين غالباً ما تقابل جداراً صلداً, فهم لايودون تذكر ما حدث, تقول :" لا اتذكر اي محادثة من هذه المحادثات وصلت الى نهايتها ".
" قال أحدهم : بعد ثلاث سنوات من العلاج لم يتحسن وضعي النفسي. لحد الآن لم اقل ما حدث على ارض المعركة".
يعود هؤلاء الجنود الى البلاد بالنياشين والاوسمة مكللين بأكاليل المجد عن بطولاتهم وانتصاراتهم على العدو, وتسعد عوائلهم لعودتهم سالمين, ويحتفي المجتمع بهم كأبطال أبلوا بلاءاً حسناً ضد الاعداء, اما هم فعلى الاغلب صامتون, لايفصحون عما شاهدوه في الحرب من اهوال, فهم في حقيقة الامر معوّقون نفسياً, يخفون مشاعرهم المحطمة عميقاً.
"العودة الى الوطن والأهل هي الأصعب, جنود يرجعون الى زوجاتهم واطفالهم ووالديهم ولكن يتبين انهم لا يستطيعون التصرف كما كانوا يتصرفون سابقاً. غالباً ما يكون الجسر بين عالم الحرب والحياة المدنية غير ممكن عبوره". قلق , توتر, اكتئاب, نزوع الى الأنعزال ثم ميل نحو العنف, اضافة الى الادمان على الكحول او المخدرات, هي ابرز علامات الوضع الجديد.
فعوارض الاجهاد القتالي لا تسفر عن نفسها مرة واحدة, فقد تبقى كامنة داخل المحارب لسنين لتظهر مؤشرات وجودها وتمكنّها, بدون ان يعرفوا ما يحدث معهم. ميخاو من بين القلائل الذين كسروا حاجز الصمت ورجع الى ذكرياته, واصبح علاجه ممكناً, لكن جنوداً آخرين آثروا الصمت. لم ينبسوا ببنت شفة... صمتوا حتى النهاية. لم يسمحوا لأي أحد كان من دخول عالمهم, عالم الحرب. ماريك مات قبل فترة قصيرة كمداً.
"العبوة التي كانت معدة لناقلتنا انفجرت في مجموعة من النساء والاطفال, كانوا سائرين على جانب الطريق. لم يبق منهم سوى اشلاء متناثرة, ايدي, ارجل , احشاء... فكرت حينها, انهم يمكن ان يكونوا أطفالي انا . صدر لنا الامر بالعودة الى المعسكر. لم يكن من طريق سوى المرور على أشلاء الضحايا ". يتذكر ميخاو.
" احد عناصر الأنقاذ الطبي خلال تذكره لما شاهده, ظن نفسه لازال في افغانستان, تصور بأن عليه ان يسرع في جمع أشلاء رفاقه وسحب القتلى, والانتهاء من ذلك, خلافه ستأتي القطط لتأكل الاحشاء".
" تحدث أحدهم قائلاً: بأنه قتل, في لحظة غضب, قطيع غنم لراعي أفغاني, كانت هي كل ثروته, لكنه شعر بالندم على فعلته, لكن العواطف والمعاناة تأتي لاحقاً, لأن لامكان في الحرب للعواطف. انما المهم ان المهمة انجزت بنجاح ".
" مهندسو المتفجرات, حتى حين يكونون في اجازة يبحثون عن المتفجرات التي يمكن ان تكون مخبأة في مكان ما, في القمامة... تحت سيارة... في المجاري..".
" احدى العاملات في المجال الطبي, كانت مقتنعة بأنها ملاك غير مرئي".
تحدث المحاربون ذوي التجربة عن مشاعر متناقضة تمزقهم بين اهمية اتخاذ الأجراء المناسب في اللحظة المناسبة, اوالتأني للتأكد, فالشخص القادم من الاتجاه المعاكس يمكن ان يكون انتحارياً او ان السيارة المركونة على حافة الطريق قد تكون مفخخة.
" فقط في الافلام يجري رمي العدو كما لو تصطاد البط ثم تربت على كتف رفيقك استحساناً بدون مشاعر نحو الضحايا ".
أهمية مُؤلف الكاتبة گـراژينا ياگـيلسكا " الملائكة تأكل ثلاث وجبات يومياً, 147 يوماً في مستشفى الامراض النفسية " تأتي من كونه دراسة استطلاعية وانطباعات ومشاهدات يومية لمجموعة من المحاربين القدماء وبعض افراد عوائلهم الذين ابتلوا بهذا المرض, وكشفت معاناتهم الى الرأي العام وهي التي طالما تبقى حبيسة جدران مستشفيات العلاج النفسي وأدراج الاطباء.
يميل بعض الباحثين نحو استخدام مصطلح " أضطراب ما بعد الصدمة " كتعبير شامل لمرض "الأجهاد القتالي " للمحاربين القدماء الناجم عن الضغط العصبي في ارض المعركة وللأضطراب النفسي الذي يتعرض له أهاليهم او المدنيين العاديين الآخرين ضحايا الاختطاف او الأرهاب, الاغتصاب والعنف الجنسي, او الكوارث الطبيعية كالفيضان اوالزلازل اوالاعاصير او حتى مَن تعرضوا لحادث سير او تحطم طائرة...
كم منّا نحن العراقيين, مَن لم يكن مطارداً من زبانية النظام البائد او مرّ على جبهات الحرب ووقف وراء سواترها خلال الثلاثين سنة الماضية وكم منّا, وقف في جبهتين متقابلتين في حروب التمزيق الطائفي والتعصب القومي؟ مَن من العراقيين لم يرَ جثث المغدورين بلا رؤوس او تفاجأ بقصف عشوائي او فقد احد أحباءه في انفجار سيارة مفخخة او كان هو او احد معارفه ضحية او شاهد عملية اختطاف او محاولة اغتيال بالكاتم ؟ ان أبسط ما يمكن ان يكابده احدنا, هو وقوعه نهباً لقلق يأكله بسبب تأخر فرد من أفراد العائلة عن العودة من العمل في ظروف التدهور الأمني الصعبة .
لنعلنها صراحة: كلنا مرضى " اضطراب ما بعد الصدمة " النفسي, بشكل او بآخر وبمستويات مختلفة, فأن انتشار ثقافة العنف وعسكرة المجتمع والاحتماء بالطائفة او العشيرة وشيوع تعاطي المخدرات ونسب الطلاق العالية في مجتمعنا وعدم المبالاة والانكفاء على الذات وفتور الشعور الوطني, كلها وغيرها من المؤشرات دلائل تشيرالى ذلك.
ان اشاعة السلم الأهلي هو العلاج الأهم والأعم, لهذا المرض المستعصي, وهو ما لاتستطيع ان تنجزه قوى التمزيق الطائفي او التعصب القومي والشوفيني الحاكمة بل قوى التغيير المدني الديمقراطي التي تؤسس دولة المواطنة التي يخضع فيها الجميع للقانون بدون تمييز وتضمن حقوقاً متكافئة للمواطنين. ويقع عليها مسؤولية تفصيل برامجها المستقبلية في المجال الصحي بأضافة فقرات تولي اهتماماً خاصاً لهذا المرض المعضلة, بتشكيل مؤسسات بحثية متخصصة بكفاءات مجربة, تقوم بدراسات ميدانية معمقة للامتداد الافقي والطولي للمرض في المجتمع العراقي في اوساط المدنيين والاطفال منهم بشكل خاص كما الذين تحت السلاح, وتضع الحلول الناجعة للحد من تفاقمه مع انشاء المؤسسات ومستشفيات العلاج النفسي وبيوت نقاهة عصرية لاستقبال المرضى.
ان معافاة مواطنينا من آفات وتبعات مآسي الحروب السابقة والاحداث الحالية المؤلمة هو الطريق الأمثل للانطلاق بعملية البناء والتطور. وهي لعمري مهمة صعبة !
* الاسم الأصلي باللغة البولندية : "Anioły jedzą trzy razy dziennie. 147 dni w psychiatryku " -غير مترجم للغة العربية.
* كتابها الآخر ذات العلاقة بالموضوع اعلاه : "Miłość z kamienia" ( حب من صخر ) - غير مترجم للغة العربية
مقالات اخرى للكاتب