يُقال أن الشاعر علي بن الجهم قدِمَ على الخليفة المتوكل بسامراء , وكان بدويا جافيا فأنشده مادحا قصيدة قال فيها:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلا كثير الذنوب
ويُقال أيضا أن المتوكل قد رأى فيها , حسن المقصد وخشونة اللفظ , وبأنه أوعز أن يكون الشاعر في أحد القصور ببغداد على نهر دجلة , وبعد ستة أشهر جيئ به إلى المتوكل فأنشده:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدت جمرا على جمر
................إلى آخر القصيدة
فقال المتوكل : أوقفوه , فأنا أخشى أن يذوب رقة ولطافة؟!!
ومَن يتأمل القصيدتين , لا يجد ما يسوغ أنهما لشاعر واحد , وأنه هكذا تغير بسرعة , وصار يقول شعرا لا يمت بصلة إلى ما كان يقوله من قبل , ويصعب تعليل هذه الإنتقالة النوعية وببضعة أشهر.
كما أن شخصية المتوكل لا توحي بهذه الإستجابة لمن يواجهه بألفاظٍ كما ورد بالقصيدة الأولى , وأظنه لو فعلا حصل ذلك , لقطع رأسه في مكانه وبيده , فلا يمكن لأحدٍ مهما كان أن يتلفظ أمامه بلفظ كهذا.
كما أن علي إبن الجهم لم يكن ساذجا إلى هذا الحد ليقف أمام المتوكل ويصفه بتلك الكلمات , بل وأن الحافين بالمتوكل لابد لهم أن إطلعوا على ما يريد قوله , ولا يمكنه أن يقول شيئا من غير مراجعة من قبل المشرفين على ديوان الخليفة.
فمن الناحية السلوكية , لا يمكن ذلك , خصوصا إذا كان الشاعر قد إكتملت أدواته ومفرداته , وآليات نظمه للقصائد , لأنه سيتحوّل إلى صنّاع شعر بمواد أولية مخزونة في ذاكرته.
ولا أظنه قد أثر المحيط به وغيّر آليات نظمه للشعر ومَعجميته بهذه الأشهر القليلة , مهما كان المشهد غريبا وعجيبا بالنسبة له.
فالشاعر البدوي يبقى بدويا في ألفاظه , كالشاعر الشعبي الذي تبقى مفردات شعره ذات طبيعة شعبية.
والمقارنة ما بين القصيدتين , كالمقارنة ما بين الأرض والسماء , فجزالة القصيدة الثانية بأنغامها وعذوبتها وصورها وبلاغتها ومفرداتها وتأثيرها في النفس والروح والذوق , لا يمكن مقارنته بالقصيدة الأولى بأي حال من الأحوال.
فالأولى تنم عن ضيق إبداع وفقر بلاغي , وضعف في خزين المفردات والتعبير عن الصورة الشعرية , وقلة الجمال الفني , وكأنها لم تنطق بلسان شاعر , فلا يمكن لشاعر يكتب القصيدة الثانية أن يكون بهذه السذاجة , وعدم القدرة على تقدير الموقف والإحساس بالمحيط الذي هو فيه.
كما أن طبيعة الشاعر العربي مهما كانت بيئته , أمام الخلفاء يكون ميالا للمديح المطلق الذي يُخرج الممدوح من أفق البشرية , ويضفي عليه صفات خيالية , وهذا شأن شعر المديح على مرّ العصور العربية.
ومن الواضح أن هناك تشويه للشاعر والخليفة , فالصورتان لا تتفقان ولا تتطابقان , ومن المرجح أن تكون القصة ملفقة وغير صحيحة , وإنما أريد بها النيل من الخليفة والشاعر.
وهكذا فأن القصة لا تحقق الإنسجام , ولا تتفق مع التقاليد والأعراف السائدة عندما يتم تقديم شاعر للخليفة لأول مرة , خصوصا وأن المتوكل كان له شعراءَه وعلى رأسهم البحتري , الذي لا بد لأي شاعر يتقدم إلى مجلسه أن يُجاز من قبله , وإلا سيتحمل تبعات ما سيقوله.