إن الاستعمار الجديد لا يقتصر على أشكال (الهيمنة التقليدية) ولا على الهيمنة الاقتصادية التي تمّ تناولها بمقالنا المنشور في (5028) وبتاريخ 17/2/2015 وبعنوان: الهيمنة الاستعمارية الجديدة على المحك وإنما يتضمن أيضاً أشكال متنوعة من الهيمنة (الثقافية) والإعلامية والأيديولوجية والفكرية.

إن الاستعمار الفكري والثقافي هو بلا شك أسوء أشكال الاستعمار، تكمن خطورته بقيامه بدور أرتكازي في (عقلنة) الهيمنة الاقتصادية… وهو شرط أساسي من شروط ديمومة استغلال (الشمال) لثروات اقتصاديات (الجنوب).! وهكذا.. نجد الشمال يوظف إمكاناته التقنية الضخمة… ووسائل الإعلام… وقنوات الأتصال المختلفة، لكي يخضع  ثقافات الجنوب لتوجهاته وقناعاته الأيديولوجية الخاصة.

كما يقوم الشمال بتصدير (تجربته) الحياتية والحضارية والتنموية وتعميمها عالمياً… بل ويصورها وكأنها هي التجربة الحياتية الفريدة والمثالية… بل التي تستحق دون غيرها أن تكون (نموذجاً) جديراً بالاقتباس والمحاكاة. ولا شك أن دول الشمال وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية توظف الإعلام والثقافة وحتى العلم ذاته، لخدمة أهداف هيمنته على العالم المعاصر… وقد أستطاع من خلال ذلك أن (يخضع) الجنوب ثقافياً وفكرياً… بل يعده نفسياً وعاطفياً لتقبل نموذج الشمال الحياتي والحضاري والأيديولوجي. إن قيم ومفاهيم وتصورات الشمال… هي القيم والمفاهيم الحياتية الأكثر انتشاراً على الصعيد العالمي… وفي هذا يمكن القول أنه من الطبيعي أن (يتشرب) الجنوب وشعوب الجنوب… وخصوصاً فئاته (الحاكمة) وطوائفه المرفهة، بهذه القيم والتصورات التي أصبحت تمارس فكراً وسلوكاً. لذلك…

فإن الهيمنة الثقافية لا تُفرض فرضاً وقسراً من قبل الدول الاستعمارية، وإنما يتم قبولها وممارستها تدريجياً وطوعاً من الفئات الحاكمة… تلك الفئات التي تقوم بعد ذلك بترويجها بين شعوب الجنوب بشكل يدعو للاقتناع والرضا. والخلاصة…نجد أن الاستعمار (الإعلامي) يرتبط أرتباطاً وثيقاً بالهيمنة الثقافية والأيديولوجية… والتي هي بحق أهم أسلحة الشمال وأكثرها فاعلية في ديمومة هيمنته التاريخية على الجنوب. كذلك… فإن مواجهة الهيمنة الثقافية هي بلا شك أكثر صعوبة… لذا فإن هذه المواجهة تتطلب إعادة النظر في مجمل التصورات والمعتقدات والبديهيات السائدة الآن في الجنوب. كما أن الهيمنة الثقافية والأيديولوجية تتطلب إرادة سياسية حديدية وقدرات حضارية.

إن خطورة الهيمنة الثقافية تكمن في كونها مرتبطة في الأساس برغبات وتوجيهات وسياسات الفئات الحاكمة في الجنوب… فالقضاء على هيمنة الشمال الثقافية والفكرية لن يتم إلا بالقضاء على هيمنة وتسلط الفئات والشرائح (الحاكمة) حالياً في الجنوب وعدم السماح لأمثال هؤلاء من الوصول إلى (الحُكم) مستقبلاً. لأن تلك الشرائح الحاكمة هي التي تحتضن الأيديولوجية الاستعمارية وتتبنى المشروع الحضاري (الرأسمالي)، بل وتروج للقيم والمفاهيم والتصورات العصرية والحديثة… والتي تعمل جميعها على تعمق حالة الأرتباط بالنظام الرأسمالي العالمي.

اليوم نقف على مفترق طرق، فلو نظرنا إلى الواقع العملي، لوجدنا توتراً في العلاقة بين (الغربيين والمسلمين). وكلا الطرفين، يميل إلى التحفظ، والريبة، ويتخذ المواقع الدفاعية، التي تعبر عن التخوف أكثر من الثقة، والتوجس والرعب، أكثر منهما فضولاً وقلقاً، هذه المشاعر والأحاسيس، هي التي توجه وتسيّر العلاقة بين المسلمين من ناحية وبين الأوربيين والأمريكيين الشماليين من ناحية أخرى، هذه (الريبة) موجودة على كل مستويات الجيولوجيا السياسية يراها ويرصدها المرء سواء كان في بغداد أو القاهرة، أو في أي مدينة أوروبية كبيرة! إننا نعيش في زمان نستطيع وصفه بأنه (ليس الأفضل) لو أردنا استعمال أسلوب رقيق معتدل للتعبير، ولهذا كان من الضروري أن نبين أن عالماً آخر يمكن بناؤه. عالمٌ يُبنى على (الثقة المتبادلة)، وعلى تعارف أكثر لبعضنا بعضاً، وعلى أحترام الآخرين، الذين فضلوا أختيار أسلوب حياة مختلف عن أسلوب حياة الآخرين..!