في كل مرة أزور لندن أشعر ان المدينة قد تغيرت كثيراً. وفي واقع الحال العاصمة البريطانية لا تتغير إلا ببطء شديد لأسباب تتعلق بالطريقة التي يفكر بها الانكليز ومفهومهم عن المكان والإرث.
هذه المدينة تبدو لي مكاناً متخيلاً أكثر منها مدينة قائمة على الأرض. لا استطيع أن أتخلص من الإرث التاريخي والأدبي لهذه الحاضرة، لذلك أنظر إليها كما لو أنها مدينة في رواية تاريخية قائمة في مكان ما وليس في الإمكان الوصول إليها.
الطريقة الوحيدة لملامسة حدود هذه المدينة تتحقق من خلال الأدب الذي أنجزه عباقرتها في الشعر والمسرح تحديداً. شيكسبير في مأساوياته وإليوت في"الأرض الخراب"و"جريمة قتل في الكاتدرائية"كأمثلة مبسطة للغاية.
كاتدرائية إليوت أصبحت ألان ترتبط بمعمل السكر المهجور الذي تحول إلى أكبر متحف للفن الحديث في لندن عن طريق جسر نحيل صممته العراقية البارعة زها حديد، ولكن الانكليز بطبعهم المهيمن بدلاً من أن يضعوا اسمها على الجسر وضعوا اسم المهندس الانكليزي الذي نفذه. ليتهم اقتدوا بوزير الثقافة الفرنسي الذي كرم السيدة العظيمة فيروز بوسام الفرسان عندما قال:"الآن دخل العرب إلى فرنسا".
الجسر التجريدي
المتغير المرئي الوحيد الذي بدا لي انه غيَّر شكل المدينة هو هذا الجسر الذي يبدو كغصن رقيق يستلقي على ضفتي نهر التايمز العملاق. جسر لا يدعي أية أبهة، ومن دلالات اختزالاته التجريدية المعمارية النادرة انه يتمدد على دعامتين ضئيلتين قد تطيح بهما أية ريح عابرة كما يبدو من النظرة الأولى. غير انه الآن يربط التاريخ الفيكتوري بالحاضر الرأسمالي البشع ويصل جزءي المدينة اللذين يبدوان بعيدين عن بعضهما أكثر من أي وقت مضى. على ضفة التايمز أيضاً يبدو مسرح شيكسبير الذي رمم وافتتح أمام الجمهور تحت ظل بناية مكتب عمدة لندن الحديثة بزجاجها السميك الكثير كحاضنة رمزية وعتبة ابستملوجية أكثر من كونه مكاناً تاريخياً.
وليس بعيداً عن ذلك البيت متحف الفن الحديث الذي يضم كثيراً من أعمال عباقرة القرن التاسع عشر والقرن العشرين من أمثال بيكاسو ومونيه وكاندينسكي وجايكومتي وسلفادور دالي وغيرهم من الأسماء الجديدة التي يصعب حصرها هنا. يتيح هذا المتحف مرة واحدة في الشهر فرصة لفنان من أي مكان في العالم إن يعرض عملاً واحداً كبيراً في صالته الأرضية بغض النظر عن المادة المستخدمة في العمل. وكان هناك عمل لفنان روسي يمثل شرياناً ضخماً منفذاً بمادة البلاستك الشفافة.
حضارات محنطة... حضارات تنمو
يندر أن يصل امرؤ إلى لندن من دون أن يزور المتحف البريطاني الذي يضم بين طوابقه تراث اكبر الحضارات وأقدمها على الأرض، ابتداء من الحضارة الرافدينية مروراً بالحضارة المصرية ثم الإغريقية نزولاً في التاريخ. في كل مرة أزور هذا المتحف ومن الخطوة الأولى داخل حدوده تنتابني لوثة من الانبهار تفقدني رؤيتي النقدية وتصيبني حالة من الشعور بالغضب افقد معها حياديتي وطبيعتي الهادئة. لكنني في هذه المرة قررت أن أتخلى عن أي شيء يربطني بالتاريخ والجغرافيا والحس الوطني والذاكرة والانتماء من اجل الحصول على المتعة الفنية لا أكثر.
أول ما يطالعه الزائر في المتحف، الثور الآشوري ذو الأرجل الخمس مع رأس بشري دلالة احتفاء الآشوريين بالعقل والمعرفة كعنصر أساسي قامت عليه هذه الحضارة. ومع تتبع السهم الذي فرضه المتحف نصل إلى معلقات هي توليفات بارزة برع الفنان الرافديني في الحفر على الحجر ودوًن فوقها أفكاره التي بدت سلسلة شعرية وحكاية رمزية طويلة تخترمها بين جدار وأخر مفقودات عزيزة برغم أن فقدانها لا يؤثر في السياق العام لهذه المعلقات. ومن خلال رؤية معمقة تبدو الحركة واضحة في القصة المنحوتة ولا مجال لاكتمالها لأنها جزء من المنجز العام الذي يعيش ديمومته الخاصة. على العكس من الأيقونات المصرية والإغريقية التي تبدو كاملة ولا مجال للإضافة فيها مما يجعلها جامدة بوصفها تماثيل لا أكثر كنهاية غير قابلة للاضافة. بمعنى آخر أنها نهاية مغلقة وهي بمثابة واقعة لا تستطيع أن تجتاز نفسها.
سوهو ابتكار كولون ولسن!
في شارع البيكاديللي العريق حيث الأكاديمية الملكية للفنون بطرازها الروماني ورموزها الذين توزعوا على جدرانها العالية بهيئاتهم وحجومهم البشرية صدمت بوجود عمل فني عملاق لفنان انكليزي شاب يمثل أحداث صدمة 11 سبتمبر. يظهر في هذا العمل البرجان وهما آيلان إلى السقوط وقد نفذ بطريقة وحشية جريئة للغاية ومن مادتي الاسمنت غير المشذب مع صفائح حديدية مضغوطة على شكل مكعبات كونكريتية فوق بعضها البعض. العمل بارتفاع عشرة أمتار ويوحي للمشاهد انه سيسقط بعد قليل، غير انه منفذ بطريقة رياضية مدروسة لا تقبل أية مجازفة. عرض العمل الكبير بهذه الطريقة غير المسبوقة وفي هذا المكان بالذات يشكل صدمة حقيقية للمشاهد، تعيده فوراً إلى اللحظة التي جرى فيها تفجير البرجين والكابوس الذي رافقهما. انه نتاج صدمة، وحجمه الضخم إلى هذه الدرجة يعبر عن هول الصدمة في ذاكرة صانعه ومتلقيه.
ليس بعيداً عن الأكاديمية الملكية للفنون كان حي"سوهو"، ومن يقارن المكان في رواية كولون ولسن"ضياع في سوهو"والمكان الآن يصاب بالدهشة. فالغانيات توارين خلف جدران خشبية سميكة وفسحن المجال أمام باعة الفواكه والخضروات الذين انتشروا على جانبي أزقته الضيقة وغير ذلك لا شيء يذكر. انه المتخيل الروائي نفسه، المكان الذي يتحقق في داخل العملية الأدبية ويستمد بعده وقيمته الرمزية منه.