صباح العيد الذي إغتاله أعداء المحبة والدين والحياة , صدح الهاتف بصوت المقام العراقي الأصيل بحنجرة صديقي ورفيق صباي , الذي كان يُطربنا بأنغام المقام العراقي في ليالي سامراء الساحرة , في محلة القاطول عندما تتوامق المساءات وتتلألأ النجوم , وتهبّ نسمات الهواء الغربي العذبة , وهي تحمل عبق دجلة ونبضات خيوط أشعة الشمس الناعسة , وفي هدأة الحياة وتفتح النفوس وتناجي الأرواح , يبدأ صديقي بشدو المقام الذي حباه الله موهبة التعبير عنه بالفطرة وبقدرة لا تُضاهى , صديقي الذي حسبته سيكون من أعمدة المقام العراقي ورموزه الخالدين , كتم هذه الموهبة بسبب الظروف العائلية والدينية والتقاليد السامرائية , لكن موهبته تفتقت وعبّرت عن نفسها بآليات أخرى ذات قدرات متميزة تستحق الإعجاب والفخر والتقدير.
صديقي الذي وُلد وكأنه أُلهِم قراءة المقام إلهاما ووُهِبَ صوتا عذبا شجيا , أهداني صباح العيد مقاما تحدى المسافات وإخترق المحذورات , وتوافدت أمواجه اللامية العذبة عبر الهاتف , " الهجر مو عادة غريبة....لا ولا منك عجيبة"
فأعادني إلى حيث كنا نحلم بالأرقى ونبني قصورا فوق رمال تصوراتنا وتطلعاتنا الوثابة المتدفقة بنسغ الحياة , فما كنا ندرك معنى المستحيل , ولا معنى أن لا نكون , ولا نأبه لأي تحدي ومعوّق , فالذي فينا صوت نكون الهادر وحسب!!
وبرغم التحديات القاسية والمريرة والمصدات المتراكمة , أعلنّا أن نكون ونتواصل وندوس على رؤوس الصعاب ونرديها في حفر الهوان , فكنا جميعا وحققنا بعضا مما أراد فينا أن يكون!!
ومقام صديقي لشدة عذوبته وتأثيره أثار أفكاري , وجعلني أتساءل عن الهجر والتهاجر , وهل علينا أن نهجر بدل أن نتهاجر؟!
الهجر: الترك أو النبذ
والتهاجر: التعادي والتحامل والفرقة والتلاحي
وبينهما مسافة ذات قيمة حضارية ذات معاني إنسانية.
فمن واجبنا أن نهجر ما يعوّقنا ويؤذينا ويفؤقنا ويُضعفنا , ويستنزف طاقاتنا وقدراتنا اللازمة لضناعة الحياة الأفضل , وأن نهجر المفاهيم السلبية والنمطيات الخاسرة التي أوقعتنا في مهالك البغضاء والعدوانية على بعضنا البعض.
نعم يا صديقي علينا أن نهجر ما يمنعنا من التفاعل الإنساني الصادق النبيل , وما يمنعنا من الإعتصام بحبل المودة والوطن العزيز السعيد.
وعلينا أن لا نتهاجر ونتدابر ونتقاطع ونتخاصم , ونبذر الكراهية قي ربوع مجتمعنا الطيب المتكافل المتعاون , المُتراحم المتوادد والمتفاعل وفقا لآليات المحبة والألفة والأخوة الإنسانية والوطنية.
نعم علينا أن نهجر ما يضرنا , وأن نتحابب ونتآلف ونكون أخوة في الوطن والدين والإنسانية , وأن نتكاتف من أجل مصالحنا المشتركة , التي تحافظ على وجودنا الحضاري المتوهج في أعماق العصور والمتطلع لتغذية أنوار المستقبل الجميل الأصيل.
شكرا لصديقي على جرعة الذكريات السامرائية الشجية السمحاء!!
فهل سنهجر - كمجتمع - ما يؤذينا ياصديقي لكي نكون أقوى وأجمل؟!!
ويا "أبا الشُهب" كم شِهابٍ في بلادي إنطفأ؟
مقالات اخرى للكاتب