قال الجواهري الكبير عام 1924 نظما، هذا مطلعه :
جددي ذكر بلادي انني * بهواها ابد الدهر رهين
انا لي دينان : دين جامع * وعراقي وغرامي فيه دين
هذه بغداد هذا كرخها * هذه دجلة والماء المعين
وتماشيا مع سياق هذا النظم الجميل، يذكّر كاتب السطور، المواطن العراقي الاصيل، بان منزلة الوطن عنده، يجب ان تكون اغلى واعز من جميع الاعتبارات الدينية و العقائدية !
نعود الى موضوعنا ونقول ان ظهور التسنن في العراق اول مرة، كان في القرن الثالث الهجري، كان ذلك بدعم من الخليفة العباسي المتوكل الذي اعلن الحرب على جميع الفرق الاسلامية الاخرى، وسعى لايجاد فرقة مرتبطة به وتستند الى سنة النبي استنادا شرعيا بعيدا عن الملابسات السياسية التي حكمت سلوك الفقهاء قبل عهده. وكان شاعر المتوكل بن جهم، اول شاعر سني بهذا الخصوص. وقد تخصص في الدعوة الى التسنن واستعمل مصطلح ( سني ) في شعره، ولكونه ترعرع قي ظل المتوكل، فقد رهن تسننه بمعاداة الامام علي بن ابي طالب. فكان يهجوه بالاسم في قصائده التي يبدو انها اهملت فيما بعد، فلم تدرج في ديوانه.
وقد وصلتنا ردود عليه من دعبل الخزاعي وهو شاعر شيعي ومن البحتري وهو مستقل - - ونجد هنا اقتران التسنن بمعاداة الامام علي، ولكن في نطاق الادباء - - اما المتكلمون فانصرفوا الى تاسيس العقيدة السنية مع احتفاظهم بتقديس الامام علي بوصفه الخليفة الرابع وصهر الرسول وابن عمه وفارس الاسلام. ولم يتأثروا بحقد المتوكل والذي كان يدعو نديمه البدين الى مجلس الخلافة، وعندما يأتي، ينادي المتوكل على الحاضرين :
( جاء الاصلع البطين، جاء امير المؤمنين )، فيضحك الحاضرون استهزاء.
وقد قتل المتوكل على يد ابنه المنتصر بتحريض بعض قواد جيشه من الاتراك.
وفي غضون القرن الرابع كان التشيع والتسنن في الطريق الى اقتسام المجتمع العراقي، وقد اكتملت القسمة في اوائل القرن الخامس حيث نجد ابا العلاء المعري يوجه تحياته الى بغداد بعد مغادرته لها فيقول :
سلام هو الاسلام زار بلادكم ففاض على السني والمتشيع
لقد انحصر هذا الوضع المذهبي على بغداد وحده بينما بقت مدن العراق الاخرى موزعة بين فرق السنة والشيعة وكانت مدينة عانة واحدة من مدن الفرات التي بقيت على عقيدة المعتزلة، لكن بمرور الزمن اصبحت كلها سنية، اما البصرة فكانت خليطا من الفرق والمدارس الفكرية والسياسية المختلفة.
لقد بدآ التناحر بين الشيعة والسنة يطفح على السطح مع بداية العصر البويهي في بغداد – فقد استفاد الشيعة من مداينيهم البويهيين لترسيخ نشاطهم – ليس الفقهي فقط بل والطقوسي كذلك – وجرت اول مرة في بغداد تعازي عاشوراء – الذكرى السنوية لفاجعة كربلاء – التي استفزت السنة، لانهم جعلوها في عداد البدع المحرمة – فكانت الغوغاء الطائفية تخرج بتوجيه من فقهائهم لتخريب مواكب التعزية ومنع اقامتها مما كان يؤدي الى صدامات مسلحة تقع فيها ضحايا كثيرة من الجانبين. فقد اصبحت تعازي عاشوراء من مواسم الفتنة المذهبية السنوية ببغداد - - - وزيادة في اثارة الفتن كان تقديس مراقد أئمة الشيعة، واكتشاف المزيد من الاضرحة المنسية واقامة مهرجانات دينية حولها. – وكان الهدف الرئيسي منها ليس ممارسة الطقوس فحسب انما التحدي للاخر.
وبالطبع ان هذه التصرفات لم تكن تصدر عفوا عن عامة الناس بل هي من تدابير رجال الدين والمشايخ في الطائفتين. – على ان بغداد لم تخل عن العقلاء المصلحين في اي وقت وهم من وجهائها وادبائها وكتابها، انهم كانوا من العوامل الايجابية المؤثرة في اطفاء الفتن والتخفيف من التوتر في المدينة.
لم يكن للشيعة نشاط ملحوظ قبل ذلك، وكان الأئمة الاثنى عشر الذين انتهى عهدهم في القرن الرابع يديرون نشاطا دينيا هادئا ومسالما وكان لهم اتباع يتولون شؤون الطائفة في العراق وينقلون الى ابنائها تعاليم الائمة من الحجاز – ولم يكن في هذه التعاليم ما يستفز الطرف الاخر – وقد اظهر الأئمة احترامهم للشيخين ابي بكر وعمر – ولم يردنا الا القليل من الانتقادات الجارحة ضدهما، وهذا القليل يجب ان يكون موضع شك لان الروايات الشيعية لم تقم على اساس التوثيق التاريخي، بقدر ما استهدفت خدمة غايات الطائفة فقط.
مقالات اخرى للكاتب