قد اُتُهِمَ بالفسق والفجور وعظائم الامور بسبب الكتابة عن ظاهرة انتشار الملاهي الليلية في العاصمة بغداد التي يعتبر البعض وخاصة رجال الدين انتشارها رجس من عمل الشيطان .. وظاهرة انتشار الملاهي في بغداد ظاهرة طالما اقلقت العديد من رجال الدولة والمواطنين .. لكن الكتابة الموضوعية والغير متحيزة عن انتشار هذه الظاهرة تستحق وقفة تأمل لمعرفة اسبابها .. فاغلب المواطنين يتعاملون مع ظاهرة انتشار الملاهي وكأنها مشكلة تهدد مجتمعنا بالفسق والفجور وعظائم الامور .. في حين ان وجود هذه الملاهي في اماكن محددة من بغداد بعيدا عن المناطق السكنية وتحت اشراف الشرطة اجراء لايتناقض مع طبيعة الحياة الاجتماعية خاصة وان المجتمع العراقي مجتمع متنوع الاديان والطوائف ..
فمثلما يوجد المسلم يوجد المسيحي والصابئي والايزيدي ووو.. ورغم اني لست من رواد الملاهي واعتبرها اماكن للهوا غير البريء ومخالفة للقيم والمباديء التي تربينا عليها الا ان واقع الحال يحتم علينا ان نكون واقعيين فيما نكتب بعيدا عن التزمت ونقول بصراحة ان انتشار الملاهي في بغداد ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة لم تستطع الحكومات السابقة منع انتشارها وقد حاول نظام صدام حسين منعها بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي الا ان هذا المنع ولد مردودات سلبية داخل المجتمع العراقي كان من نتائجه انتشار الاماكن السرية المخصصة اللهو الغير بريء اضافة الى استثمار البعض من رواد الملاهي الحدائق العامة لممارسة لللهو ومن ضمنه طبعا احتساء المشروبات الكحولية امام انظار العامه من الناس ومن ضمنهم العوائل التي ترتاد الحدائق للمتعة والاستجمام .. وفي كل الاحوال فان التعامل مع انتشار هذه الظاهرة بروح الانغلاق والتزمت سيخلق مشاكل نحن في غنى عنها خصوصا ان المجتمع يعيش مرحلة الكبت الذي سيحول البعض من مرتادي هذه الملاهي في حال غلقها الى اناس متوحشين خاصة وان العديد منهم مستعدين لارتكاب الفواحش في اماكن اخرى لايمكن السيطرة عليها من قبل السلطات المحلية ..
وقد شخصت الحكومات السابقة هذه المشكلة ووضعت لها المعالجات التي تسهم في الحفاظ على التوازن بين الطوائف .. ومن الروايات التي تعزز هذا التوجه والتي تد لل على حكمة ودهاء الحكومات السابقة لمعالجة هذه المشكلة حكاية حدثت قبل اكثر من ستة عقود وتحديدا خلال فترة الحكم الملكي للعراق .. ويقال ان رئيس الوزراء في عهد النظام الملكي نوري سعيد الذي اشتهر بمعالجة الازمات التي تمر بها البلاد بحكمة وموضوعية نقل اليه وزير الداخلية طلبا تقدم به اعضاء مجلس النواب " الاعيان والشيوخ " يناشدونه بغلق الملاهي الليلية ومحلات بيع الخمور .. لكن رئيس الوزراء نوري سعيد اعترض على الطلب واعتبر عملية غلق الملاهي ستفتح الطريق لفتحها بشكل سري بعيدا عن انظار الحكومة وستخلق مشاكل واثار سلبية على المجتمع .. عملية رفض نوري سعيد طلب النواب كادت ان تخلق ازمة لكن رئيس الوزراء السعيد بحكمته عالج الموضوع بطريقته الخاصة حيث اتصل بوزير الداخلية وطلب منه توجيه دعوة عشاء الى اعضاء مجلس النواب في مبنى رئاسة مجلس الوزراء وفي الموعد المحدد جاء المدعون النواب ودخلوا صالة الطعام ووجدوا الموائد العامرة بكل انواع المأكولات والمشروبات الكحولية وبعد ان بدأوا بتناول الطعام واحتساء المشروبات أمر نوري سعيد عمال الخدمة وبشكل سري بغلق الحمامات والمرافق الصحية دون ان يعلم احد من الحضور وما ان اكمل النواب تناول الطعام واحتساء المشروب اراد البعض منهم الذهاب الى الحمامات فوجدوها مغلقة ولم يعرفوا سبب غلقها وبدأ الضيق والتذمر على وجوههم ولم يجرأوا باعلام رئيس الوزراء فيما اضطر البعض منهم الخروج من صالة الطعام لقضاء حاجته في حديقة بناية مجلس الوزراء وكان نوري سعيد يراقب الموقف عن بعد دون ان يحرك ساكنا لمعالجة الموقف فيما شعر البعض الاخر بضيق كبير فحاول ترك الصالة والعودة الى منزله قبل ان يسلم على رئيس الوزراء ..
على اثر ذلك امر نوري سعيد بفتح الحمامات لهم حيث توجه الاغلبية منهم وقضوا حاجاتهم بعد ذلك دعاهم رئيس الوزراء الى الجلوس واوضح لهم اسباب غلق الحمامات وقال " لقد قمت باغلاق الحمامات في محاولة مني لتذكيركم بمساوء مقترحكم بغلق الملاهي في منطقة الميدان فمثلما فعلتم عندما اغلقنا الحمامات عنكم فاضطررتم الى قضاء حاجتكم في اماكن عامة ونظيفة غير مخصصة لقضاء الحاجة كذلك رواد الملاهي في منطقة الميدان سيفعلون مثلما فعلتم انتم سيبحثون عن اماكن عامة ونظيفة وقد تكون سكنية لتنفيذ رغباتهم الخاصة وهذا سيخلق لنا مشاكل خطيرة تؤذي مجتمعنا " بعدها اقتنع النواب بعد ان وصلت اليهم حكمة رئيس الوزراء الطريفة وحلت الازمة وخرج الجميع راضيا .. صحيح ان الملاهي اماكن لقضاء المتعة واللهو غير البريء وهي ليست اماكن مخصصة لالقاء محاضرات في الوعظ والارشاد وبناء الاخلاق الحميدة لكنها وفي هذا الظرف بالذات اصبحت أمر واقع فالمطلوب من السلطات المحلية النظر الى هذه القضية نظرة متفتحة بعيدة عن الانغلاق الفكري لان المجتمع العراقي مجتمع متنوع الطوائف والاديان وعملية ارضاء فئة على حساب فئة اخرى لاتتم بالاكراه بل بالتفاهم وسماع الرأي والرأي الاخر
مقالات اخرى للكاتب