تصاعدت عمليات اغتيال وتهديد الأطباء في العراق، خلال الآونة الأخيرة، بحجج وذرائع مختلفة . وتتصدر التهديدات العشائرية مبررات وذرائع هذه الاغتيالات ، إثر وفاة مريض خلال عملية جراحية لينتهي المطاف بالطبيب الى دفع فصل عشائري” تعويضاً” لعشيرة المتوفى، أو مواجهة الموت بسلاح “كاتم” الصوت ، أو الهجرة من البلاد”.
ان التقاليد العشائرية العريقة تتعرض اليوم الى العديد من مظاهر الاساءة والتشويه بسبب عدد من الممارسات والسلوكيات التي اتخذها بعض ممن الصق نفسه بالعشائرية وتقاليدها جهلا” وبهتانا” بقيمها الانسانية والاجتماعية العريقة .
فالعشائرية ليست انسابا” أو انتسابا” فقط بل هي نظام اجتماعي راقي ذا ابعاد انسانية ، يسعى الى تنظيم العلاقات الاجتماعية والانسانية ضمن وبين مجتمع القبيلة او العشيرة مع القبائل او العشائر الاخرى وضمن المجتمع بصورة عامة . لذلك فان التقاليد والعادات العشائرية تستهدف بالدرجة الاساس احترام القيمة الانسانية والاجتماعية للفرد ضمن بيئته الاجتماعية . الا أن من المؤسف جدا” أن هذه التقاليد العشائرية العريقة اخذت تستخدم بأساليب ولغايات مادية وشخصية بعيدة كل البعد عن غاياتها الحقيقية مما اساء لطبيعة العلاقات العشائرية وتعامل فئات وشرائح المجتمع معها . وكان من ابرز تلك الممارسات والسلوكيات السلبية المسيئة للتقاليد العشائرية ما دأب البعض على القيام به ازاء شريحة مهنية مهمة في المجتمع هي شريحة الاطباء ، مما بات يهدد المنظومة الصحية والاطباء وكذا حياة . حيث لاتزال ظاهرة تعرض الاطباء للتهديد المتواصل من قبل اهل المريض او عشيرته تشكل حالة تخلف اجتماعي وعودة واضحة الى الوراء في سلم التطور الحضاري والاجتماعي ، تمثل بالدرجة الاولى غياب هيبة وسلطة القانون ، اضافة الى الجهل الافة الكبرى التي تتداخل مع آفة الطمع والجشع لتحقيق ارباح باي وسيلة فهؤلاء الذين يدعون بالعشائرية واحترام تقاليدها وشعائرها ، لا يختلفون عن الارهابيين وقطاع الطرق الذين كانوا يختطفون الاطفال او الكبار ويساومون الاهل على فدية بالملايين . فالأطباء الذين يعملون ليلا” ونهارا” مدفوعون بحب الوطن وحبهم للناس ومحاولتهم لتقديم خدماتهم لأناسهم ووطنهم، واذا بهم يواجهون كل ذلك ويتحملونه بشجاعة وصبر لتأتيهم تهديدات المتخلفين والمتهورين الذين لا يعترفون بقانون ويستغلون ضعف الدولة وضعف مراقبة تنفيذ القوانين والقرارات ليمارسوا اعمالهم الإرهابية ضد الأطباء ليجبروهم على الرحيل كما لو أنها عملية انتقام من الشعب العراقي من خلال حرمانه من علمائه وأكاديمييه واطبائه!. او هي وسيلة مبتذلة للتجارة بأرواح الناس!. ومن الجدير بالذكر تقارير دولية صادرة عن منظمات معنية بالشأن الطبي في بريطانيا، أشارت إلى أن من مجموع المختطفين وعمليات التهديد التي تعرض لها عراقيون من ذوي الكفاءات نسبة الأطباء فيها 3.7 1642 بينما نسبة القتل تصل إلى 1.6 بالمئة خلال سنوات العنف الممتدة ما بين 2004 و 2007 . ويستمر التقرير ليؤكد بقاء ما يقارب التسعة آلاف طبيب فقط لمعالجة 28 مليون عراقي، وهو ما يشكل نسبة ستة أطباء لكل 10 آلاف مواطن، مقارنة بـ26 للعدد نفسه في المملكة المتحدة البريطانية . فيما يكشف تقرير آخر صادر عن منظمة الصحة العالمية أن فقدان العراق لعدد من أطباء أدى الى التدهور السريع في الخدمات الصحية، والرعاية الصحية الأولية، مشيرا إلى أن الوضع الصحي في العراق لا يظهر اي تحسن فيه، لافتا ان معدل الوفيات التي تتراوح أعمارهم ما بين 15-59 شخصا ترتفع لتصل 222 وفاة من مجموع 1000 حالة ، مقارنة مع المعدل العالمي البالغ 176 حالة .
ومما لاشك فيه ان الطبيب هو جزء من النظام الصحي في البلد فهناك مستشفيات وأطباء، و أدوية، ومراكز صحية، كثير من هذه المسائل تعتبر جزءا مهما من النظام الصحي، والطبيب هو جزء من هذه المنظومة يتحمل العبء لكن نجد أنه الاخطاء التي تسببها أجزاء النظام الصحي وأقسام النــــظام الصحي كلها الآن كأنها تعود إلى الطبيب وكأنه هو الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن ينقذ الناس ويقدم الشيء الكثير للإنسانية دون غيره.
واذا كانت الدولة تدعم العشائر وتتقرب لها وتشجعها على ممارسة شعائرهم ودورهم ببعض الامور، فان هذا لا يعني إلغاء دور الدولة ولا يعني البتة ضرب القانون عرض الحائط..
أن الحاجة كبيرة جدا في مجال النظام الصحي وفي مجال التوعية الثقافية الاجتماعية للإنسان العراقي وكيف يتعامل مع الطبيب وكيف نستطيع أن نصلح أو نعدل المسار وهذا يأتي من خلال الإعلام ووسائله المتعددة ومن خلال منظمات المجتمع المدني ، ومن خلال المؤسسات التربوية والجوامع ومن خلال العشيرة ذاتها ممثلة بالحكماء والعقلاء من وجهائها ، ان حماية واحترام الكوادر الطبية ضرورة ملحة اليوم ، قبل أن يخلو العراق منهم هربا” الى دول وبيئات اجتماعية تحترمهم وتقدر جهودهم الانسانية التي نحن اليوم بأمس الحاجة اليها..
مقالات اخرى للكاتب