حالما يجلس الإنسان وبيده قلم وأمامه ورق , أو أنه يبدأ الكتابة على الحاسوب , يتحول إلى وجود آخر , وعالم يختلف عن العالم الذي هو فيه , حيث ينتقل إلى آفاق أخرى لا تمت بصلة إلى ما هو فيه أو عليه.
ومعظم الكتابات التي نقرؤها , مكتوبة بمداد الفنتازيا والهروب من الواقع أو تصوره وتوهمه وتحريفه عن حالته التي هو عليها أو فيها.
فالكاتب لا يكتب عما يراه , وإنما عن الذي يريد أن يراه , أو الذي يتصور بأنه يراه , وبهذا المعنى فأن الكاتب يخدع نفسه , وينكر الواقع , ويخادع القراء أيضا.
وهذا الأسلوب في الكتابة حاصل في المجتمعات المتأخرة , ويبدو جليا على مواقع الإنترنيت والصحف الورقية.
وبسبب هذا التفاعل الإنقطاغي والتصوري والعبثي , فأن الكاتب يكون له دور سلبي ومعوّق , وقامع لحالة التطور والإرتقاء , ويساهم في تأسين الأحوال وتفاقم التفاعلات , فهو لا يحلل ويدرس ويستنتج ويعالج , بقدر ما يعكس حالته على السطور.
وهذا الأسلوب الإنعكاسي الإنفعالي , يسود معظم الكتابات , ويصدر عن كتاب لهم تأثير في تشكيل الرأي والتصور العام.
إن الكتابة ليست قلم وحبر وسطر ورغبة في التعبير , بل أنها مسؤولية ومهمة تتطلب الصدق والمعرفة والوعي والحيادية والنزاهة , والقدرة على التفسير والوصول إلى منطق نافع وصالح للصيرورة الإنسانية الأفضل.
لكن الملاحظ أن المجتمع يميل إلى رعاية وتشجيع الكتابات الغريبة والمتطرفة والمنفعلة , التي تتناول الموضوعات الفردية والشخصية , وتنال من هذا وذاك , دون مسوغ موضوعي حضاري ثقافي معاصر , وإنما هي مشاجرات ومهاترات وتفاعلات مؤذية تثقل كاهل السطور.
والمتتبع للكتابات الأكثر قراءة , يجدها تنحصر تحت عنوان الكتابات الإنفعالية الهجومية المتطرفة في رؤيتها ونظرتها للحالة التي تتناولها.
وهي مقالات الكتابة بلون واحد , والنظر إلى الوجود بعدستين , وكأن كل شيئ أما أسود أو أبيض , وفي هذا يتم نفي جميع الألوان.
ووفقا لهذا التفاعل والتواصل ما بين الكاتب والقارئ , يتم بناء آليات تفكير ضارة ينجم عنها تداعيات مأساوية متلاحقة.
إن وعي الكاتب لدوره ومسؤوليته , يحتم عليه التأني والدراية وتثقيف الذات حول الموضوع الذي يتصدى له , والقراءة المتواصلة والتفكير العلمي التحليلي الدائب , لكي يكون شعلة منيرة في دروب التقدم والرقاء , لا أن يكون مانعا أو عثرة في طريق الخطو نحو الحياة.
ومما يثير الغرابة والحيرة , أن الأقلام تكتب وكأنها لا تدري ما تكتب , وإنما هي تكتب وحسب.
وكثيرا ما يتساءل القارئ الحصيف , ماذا يريد الكاتب أن يقول , وما هي الفكرة التي يحملها مقاله , وفي حقيقة ما يقرأه , لا توجد فكرة واضحة , بقدر ما توجد رغبة إنفعالية للتعبير عن مشاعر مكبوتة أو مؤجلة , ذات غايات في النفس الفردية والجمعية , وهذا يصنع ما لا تحمد عقباه.
والمجتمعات المتنورة تدرك أهمية الكتابة ودور الكاتب في الحياة , ولهذا فهي تؤهل الذين لهم القدرة على التعبير عن طموحاتها الوطنية والإنسانية الفاضلة , ولا ترعى أو تشجع الذين لا يعرفون قيمة ودور الكتابة في الحياة.
فهل سنكتب عن الواقع بمداده وتطلعاته , أم سنبقى نكتب بمداد ما نرى؟!!
مقالات اخرى للكاتب