أغنية لسليمة مراد , وغناها بعدها آخرون , وهي تبوح بصدق وعفوية عن حقيقة النفس العراقية , ونقاوة المشاعر والأحاسيس وفيضها , وتشير إلى ينبوعها الصافي , وقطرها الرقراق , العذب الدفاق , من خلجان الروح والأعماق.
خدري الجاي خدري عيوني إلمن خدرة؟
فالعراقي لا يأنس بيومه من غير المشاركة والتفاعل مع العراقي , مع الإنسان , أيا كان عنوانه , حبيب , أخ , صديق أو جار وقريب.
فلا يمكن للعراقي أن يستطعم ويشعر بلذة ما يأكله , إن لم يشاركه الإنسان الآخر فيه.
تلك حقيقة وصدق الحالة السلوكية الفاعلة فينا جميعا , رغما عنا وعن كل ما نراه ونتصوره ونعتقده ونتبناه.
مالج يا بعد الروح دومج مكدرة
وفي هذا المقطع تعبير واضح على إحساس العراقي بأخيه العراقي , وتفاعله معه , وقدرته على تقمص حالته النفسية والإنفعالية والعاطفية , فإنفعال العراقي يؤثر على مشاعر وأحاسيس العراقي.
كالولي خدري الجاي إشلون أخدرة
واشلون أصب الماي واشلون أفوره
وفي هذا إشارة إلى إضطراب الرؤية والغضب والرفض للتمتع بالأشياء , دون مشاركة الآخر بصفته التي يكون فيها.
فما قيمة أن يشرب الإنسان الشاي لوحده , وما معنى الشاي إذا صار وسيلة للوحدة والوحشة والإنزواء.
فقوري الشاي , كما هو معروف , يجمع العراقيين حول مائدة السمر والأحاديث اللطيفة الحلوة, المعبّرة عن صدق التفاعل الإنساني وجمال النفس وصفاء الروح.
فقوري الشاي في مجتمعنا , معالج نفسي , وطريقة ترويحية لا مثيل لها في مجتمعات الدنيا. ولهذا يكون قدح الشاي أو "إستكان الشاي" , وسيلتنا المُثلى للإفضاء وتطهير الأعماق مما علق بها من غبار الأيام وأكدارها.
وتشير الأغنية , إلى أن غياب التفاعل مع الآخر , يؤدي إلى فقدان أبسط مهارات صناعة الحالة المطلوبة , فالتفاعل عنصر أساسي في الوصول إلى الهدف في العراق , وذلك من ثوابت الروح والنفس والعقل في العراق وعلى مر العصور , ومستوحى من إرادة تفاعل النهرين السرمدية الأبدية المطلقة ومنذ الأزل.
هيهات أخدر الجاي بيدي واشربه
من عكب عين إهواي إلمن اصبه
وهنا يتحقق التعبير الأوضح عن عدم جدوى السلوك المتفرد , المنعزل الخالي من طاقات وقدرات التفاعل مع الأخر , وصياغة الحالة المتفقة مع إرادة الحياة , وقدرات التواصل والبقاء والرقاء , والبناء الحضاري الإنساني الحي العريق.
وابشرعي أحرم الجاي والولف غايب
عني الشكر والجاي (جايز وسايب)
فما قيمة الفعل المجرد من المشاركة , ومن الأفضل , أن يسود الصمت والسكون , وعدم الحركة , لأن الحالة تفقد طعمها ودورها وتأثيرها , ومعناها.
فما ألذ وأطيب "إستكان الجاي" , مع الحبيب والعشيق , والإنسان الذي يبدأ ببوح ما فيه , حول السماور والمنقلة أو صينية الشاي , المزينة بالكليجة , والكعك والبقصم أو خبز العروك والإركاك.
فما أروع الحياة في العراق , عندما نفهم قيمة "إستكان الجاي" , وما يدور في خلد أخينا الإنسان.
ويبدو أن من أنجح الوصفات التي ربما تعيد المياه إلى مجاريها , أن يفتتح البرلمانيون جلساتهم , بالإستماع إلى أغنية سليمة مراد "خدري الشاي خدري" , لكي تتطهر قلوبهم وتتزكى نفوسهم , وتتبصر عقولهم , فيفكروا جميعا بالعراق الحبيب , المحبوب , الذي لا يمكنهم أن يخدروا الجاي من دونه , بل سيفقدون مهارات صب الماي وتفويره , وقد يجهلون أو لا يعرفون الجاي , فيضعون التتن أو الحنضل في القوري !
ولا أدري إذا هم في جلساتهم يشربون , البسي كولا , وقهوة العم سام , بدلا من الجاي العراقي , ومن القوري العراقي , الذي ربما قد حطموه!
فاشربوا الجاي على أنغام أغانيه لكي تبنوا القلوب والنفوس والعقول والعراق!!
ولنغني سويةً: "خدري الجاي خدري..."!!
مع أطيب الأمنيات "بإستكان جاي إمخدّر" على المنقلة , يكون بلسما لجميع معاناتنا ومشاكلنا , لأنه سيبصرنا بحقيقتنا , وقيمة تفاعلنا الإنساني المِعطاء!
فهل سنشرب سويةً شاي الصفاء والمحبة والنقاء لنأسو جراح العراق؟!!
مقالات اخرى للكاتب