قبل عدة سنوات قالت لي إحدى الأخوات الكاتبات المصريات: " إكسر قلمك" وأضافت: " قررت أن أكسر قلمي لأننا نكتب -لأمة إقرأ- التي لا تقرأ ولن تقرأ"
واعتزلتِ الكتابة!
في حينها توقفت كثيرا عند ندائها الذي تكرر , بحجج ومبررات تدعم فيها , أن لافائدة من الكتابة في مجتمعاتنا. وكدت أن أستجيب لأسلوبها الإقناعي الرصين, لكنني أدركت بأن المشكلة التي أعاني منها , ليست خارجية وإنما داخلية , فالكتابة بتقديري المتواضع سلوك إدماني لا غير , والبعض يسميها عادة , لكنها تتكرر وكل سلوك متكرر إدمان!
وعندما حاولت الإقلاع عن الكتابة , وجدتني في حالة أخرى , ذات أعراض إنسحابية واضحة.
قلت ذات يوم لأحد الزملاء الذي يؤلف كتبا ويخزنها في بيته "أنك مصاب بالإدمان على الكتابة", فحدق بوجهي متعجبا , وقال : صدقت , فقد وجدت الجواب الذي أفسر به سلوكي", وقد ألف أربعة كتب , كلفته عشرات الآلاف من الدولارات , ولم يجني منها دولارا واحدا.
وقبل بضعة أسابيع , كنت في مكالمة مع أحد الأخوة المبدعين , وذكرت له قد كتبت شيئا رائعا عندما كنت في مكان ما , وحين أضعت الدفتر الذي كتبته فيه , إغرورقت عيوني وأصابني حزن شديد لبعض الوقت , فقال: "إنها لذة النص".
وعندما قيّمت سلوكي ودرجة إنفعالي لفقدان ذلك النص , أدركت بأنني شعرت بلذة إبداعية قصوى وأنا أكتبه , وهذه اللحظات نادرة لدى الكُتاب , وقد تكون متواصلة وخفية.
ومشكلتي مع أقرب الناس إلي , إتهامي بأنني أضيّع وقتي بما لا يجدي ولاينفع , وجوابي دائما , أيهما أفضل الإدمان على الكتابة أم على الخمر؟
الإدمان على الكتابة ربما يكون نعمة , والإدمان على الخمر قد يكون نقمة , ولو أن البعض يرى أن الإدمان على الكتابة نقمة والإدمان على الخمر نعمة , ويرى آخرون أنهما نقمتان!
وكلما تحدثت مع الأخوة اصحاب الكلمة والقلم , تتضح لي عندهم علامات وأعراض الإدمان على الكتابة , وبعضهم يمزج الكتابة بالخمر , فترى عباراته المخمورة المسكوبة على السطور, فتصاب بالغثيان وأنت تقرؤها بل وبالدوار الشديد.
فما أكثر كتاباتنا المخمورة , بأنواع الخمور الفاعلة في أعماقنا , وأكثرها سيادة وقوة ونشوة , خمور الإنفعالات السلبية , بأنخابها المشعشعة بالعواطف الملتهبة , والمتصاعدة من جمرات الصهباء الرقراقة المتلألئة في دنيانا المحشوة بالدخان.
فترانا نقرأ ونصطلي وننصهر , ونحتسي خمور العبارات التي تذهب بعقولنا , وتؤجج ما في نفوسنا من دوافع التداعي في مواقد النيران , فنتلذذ بأزيز شواء وجودنا المتفحم في مناقل التضليل والتجهيل والبهتان.
وبعد أن يتملكنا السكر الشديد , نغط في نومة أصحاب الكهف , فنطوي القرون ونحسب أننا ما غفونا إلا يوما أو بعض يوم , ولا نزال على يقين , بأن ما عندنا سيشري لنا خبزا وتين!
وقال صاحب يراعٍ حزين : دعني أكتب فوق الماء وعلى وجه الرمال بمداد الحنين!
وعندما سألته: إلى متى؟
قال: دع الطين يذوب في بدن الطين!
فكسرت قلمي , وغبت في معاقل الجاهلين!
وشكرا لزميلي الذي هاتفني البارحة وشاركني بهموم الإدمان على الكتابة ولذة الإبداع!!
د-صادق السامرائي
مقالات اخرى للكاتب