التخندق في محاور الإختلاف, عاهة سلوكية أصابت البشرية بالويلات, لأنها تستثير أقصى طاقات الغضب والإنفعال والتوحش والإندفاع نحو الفتك والدمار.
فالإختلاف قوة ذات إتجاهين , وتكمن فيه أقصى طاقات البناء وأقوى قدرات الخراب, والمجتمعات هي التي تختار أي طريق تسلك.
وفي واقع الوجود بأسره , أن البقاء والتواصل لا يتحقق بدون تفاعل العناصر المختلفة , ودخولها في متواليات تفاعلية متنوعة , ومطلقة الإتجهات والإنتاج المؤهل لتفاعل إختلافي آخر.
فالسالب يتفاعل مع الموجب , والسالب يتنافر مع السالب , وكذلك الموجب يتنافر مع الموجب , وهذا يعني أن الحالات أو العناصر المتشابهة ذات طاقة إنقراضية فائقة , إذا تم عزلها عن المختلف معها بشيئ ما.
فلا يمكن للرجل أن يتفاعل مع الرجل لإنجاب الأطفال , بينما تفاعل الرجل مع المرأة يؤدي إلى إنجاب الأطفال , لتفاعل حالتين ذات مواصفات إختلافية معروفة.
وكذلك النخلة لا تعطي رطبا أو تمرا , إذا لم تتفاعل مع نخلة أخرى ذات طلع وليست ذات أعذاق , فتفاعل الأعذاق مع الأعذاق لا ينتج تمرا , وكذلك الطلع مع الطلع لا يتمر.
هذه حقائق أزلية قائمة في الحياة , وأدركها البشر منذ أول خطوه فوق التراب.
لكن تعدد النفوس وزيادة أعداد البشر وإنغماسهم في صيرورات متصاغرة , وتخندقهم في حالات للتعبير عن وجودهم وهويتهم وسط هذا العدد البشري الهائل , قد أسهم في تخندقهم وتقوقعهم وإنعزالهم عن بعضهم , بل وتصارعهم الدامي الذي يقضي على جميع أطراف الصراع.
وفي زمن الذوبان والإنطلاق الحر في محيطات , وفضاءات البشرية ذات الزمن الإتصالي المعاصر الوثاب , أصيبت العناصر المتخندقة بالدوار والغثيان الشديد , وتشوهت رؤاها , وتزعزع وجودها , ولهذا فأنها إتخذت سبلا فنائية لتأكيد وجودها ودورها الواهي والمنقرض حتما.
ذلك أن سيل الصيرورات المعاصرة العارم الشديد الإنطلاق , قد أغرق الدنيا وساوى عاليها بسافلها , ولا يعصم منه أي جبل أو خندق أو صندوق.
فالذي يتخندق سيختنق ويموت , والذي يظن بأنه سيتمكن من السباحة ضد التيار سيتعب وتهون قواه ويغرق , ولهذا فأن أعداء الإختلاف لن يتمكنوا من التواصل في سلوكهم لأنهم حتما لمن المغرقين.
وهكذا فأن سياسات الخنادق , وعقائد الخنادق , لا تنفع , وإنما تعني إصابة أصحابها بأنيميا الإنعزال , والإنقراض , وسيصيبهم داء الإسقربوط الحضاري , فينزفون ما عندهم من الأفكار , من أوردتهم وشراينهم فوق رمال النسيان.
فأمواج العصر المعلوماتي المعرفي الساطع , أعتى من جميع الأمواج التي عهدتها البشرية , لأنها إستطاعت أن تفاعل العقول في أرجاء الأرض كافة , وبلغة مشتركة وفعالة ومؤثرة , لصناعة الآراء والإتجاهات ونشر الثقافات فهل أنتم مدركون أم أنكم مُغرَقون؟!!
مقالات اخرى للكاتب