يختلف العراقيون على كثير من محطات الزمن في بلادهم، لكنهم يتفقون بنسبة كبيرة على أن العهد الملكي كان مختلفا في توجهاته عن باقي فترات الحكم الأحادي في العراق، مشيرين الى أن الملكية في العراق كانت بداية التكوين الصحيح ، ومرحلة مهمة في ترسيخ جذور التعددية السياسية، التي وصل العراق فيها الى مرحلة متقدمة على غيره من الدول العربية في البناء الصحيح للديمقراطية، مثلما يتفق العراقيون على نضوج التفكي في تلك المرحلة ، مثلما أن الأحتماء بمعرفة الواقع والتحديات كان جسرا للعبور الى فضاء علاقات دولية مهمة، ليست بالصورة الي تم تثقيف العراقين عليها، ضمن أدبيات التسقيط السياسي ونبش قبور المآسي ونكران الحقيقة.
لقد تم تزوير التاريخ بشكل منهجي ومدروس ليجعلوا من الملكية في العراق نذر شؤوم وخيانة وتحالفات مشبوهة، فيما الصحيح غير ذلك، فقد وضعت العراق على الطريق الصحيح، ضمن واقع اقتصادي و تسابق دولي خطير، و مع ذلك ظل العراق القاسم المشترك لكل التوازنات في المنطقة، ، لأن الذي كان يجتهد في صناعة القرار يعرف جيدا ما حوله، لذلك عندما أنهزمت الحكمة أمام قرقعة " سلاح الغدر" دخل العراق مرحلة " الذبح السياسي و تصفية الرفاق " بحجج واهية ما زالت تطبع نمط العلاقات السياسية لحد اليوم"، لذلك لم نسمع صوتا سياسيا شجاعا في مركز القرار ينتقد 14 تموز و نتائجها.
وبالمقابل عندما تسال عاقلا عايش الملوكية فأن جوابه يسبق نظرات عيونه ليقول" أخ ما يفيد عض اصابع الندم"، لقد هدمت العقد الشخصية و التراكمات النفسية أركان البيت الدستوري "، و بالمقابل ينسى آخرون من باب " المزايدة على الخطا" أن أعضاء خلية 14 تموز حنثوا باليمين و خانوا الأمانة، لذلك تناخوا لذبح بعضهم البعض، و أدخلوا العراق في متاهات تتكامل حلقاتها لحد اليوم، أنها فعلا محنة الأعتراف بالخطا ولو متأخرا.
لقد أقتحم فضاء العراق رجالات رمت بهم الأقدار فجأة، تسلقوا الى عالم أكبر من قدرتهم على التفكير، فوجدوا أنفسهم في المكان غير المناسب، وهم ينظرون الى الكرسي من اسفل، بينما غيرهم يترفع عنه بحكم العقل و الحكمة والنفوس الشبعانة، لذلك تأمر المقربون و ذبحوا المتبقي من رحم الوفاء و الأخلاص، في واحدة من أسوء محطات العراق بوصفها بوابة الدخول الى دموية القرار و عدم عفة النوايا.
لو بقي العراق مملكة لما تسابقت وأهله سيوف الغدر من كل جانب، ولو بقي الحكم الدستوري في العراق لما تحول البيان رقم واحد الى لغة حوار عبثية، ولو بقي العراق مملكة لما تمزقت وحدته ولما تسرب الوهن الى نسيجه الأجتماعي، لقد وقع الفاس بالراس كما يقولون، ومع ذلك هناك من يجتهد في تمجيد تاريخ ساهم في تخريب البلاد، حيث أنقطع شريان التسامح وباتت الأنانية الشخصية هي لغة القانون، و لاعجب من استمرار عناوين الفشل والأنكسار بعد مرور أكثر من نصف قرن على " مجزرة الأخوة الأعداء".
لقد دفع العراق ولا يزال ثمنا باهظا بسبب هذه المغامرة بكل ابعادها الشخصية والنفسية، و سيدفع أكثر اذا أستمر التستر على تزوير التاريخ بمزاجيات معكرة قبل الولادة، ولن يؤسس لدولة دستورية أبدا، طالما يستمد أصحاب القرار حكمتهم من تجربة "الغدر و نكران الجميل"ن حيث فتح القصر الملكي أبوابه لرجالات ليسوا أهلا لذلك، فذبحوا و تشمتوا و خانوا ورحلوا غير مأسوف عليهم، لأنهم قبل ذلك نحروا مستقبل العراق.
يحن العراقيون الى العهد الملكي كل ساعة، و يحاول السياسيون التشويش على حقبة ناضجة في قراءة المتغيرات، لذلك يحتفلون بانجازات الزعيم المنقوصة بكل التفاصيل، من قانون الاصلاح الزراعي الى الدمج بين كل الصلاحيات و تعطيل المؤسسات الدستورية بمفردة " أنا الزعيم"، التي ترافق عقول السياسيين منذ نصف قرن الى اليوم بكل ما فيها من مآسي، لذلك حان وقت الأعتذار من العائلة الملكية الهاشمية برجولة، وانتقاد قرارات " اللاوعي" التي على اساسها تتم ادارة البلاد لحد اليوم، وليكون في علم الجميع أن كل المشاريع الاستراتيجية، التي تم تنفيذها خلال الثلاثين سنة الأخيرة، تم الأتفاق عليها في العهد المكلي ، بانتظار توفر الأمكانيات الأقتصادية، وأن كل علاقات العراق الدولية الصحيحة أنتعشت في تلك المرحلة المهمة، لذلك لاعجب من انهيار جسر التفاؤل في العراق، لأن " دعاة الأنتقام" شيدوا دعائمه دون الألتزام بالمواصفات الهندسية، التي تمثل الولاء للوطن لا للأشخاص.
وكي لا يذهب الظن بالبعض فيتهموننا بعدم انصاف التاريخ، ولكي نؤسس لبداية صحيحة في قراءة التاريخ، فانه من الضروري جدا، تقليب الصفحات بلا نرجسية وأوهام، و التيقن أن بداية انهيار العراق رسمتها " مذبحة العقد النفسية" في 14 تموز1958، وبالتالي هي ليست ثورة شعبية كي نحتفل بها كل عام، أنها مجزرة وجريمة غير انسانية حرقت الأخضر باليابس، لأن رجالاتها لم يكونوا بمستوى العقل ولا المسؤولية، وحان وقت الأعتذار لكل رموز الملكية، فثورات العراق لم تكن وطنية بل انقلابات عسكرية وحزبية، لذلك تنهار بسرعة ولم يتلمس المواطن من انجازاتها غير الدماء الزكية، من قصر الرحاب الى الى التنومة مرورا بالفلوجة والأعظمية، والبقية تاتي اذا لم نعجل بحذف ترسبات المتبقي من ذاكرتنا الوطنية.
مقالات اخرى للكاتب