غالبا ماتتسم العلاقة بين سكان المدن وحكامهم بالبرود او العداء لاسباب واقعية وعقلانية كثيرة على الاقل اثناء فترة تسلط ذلك الحاكم وقد يشيع الى مثواه الاخير بالشماتة اكثر من اللعنات واحيانا تعلو مظاهر البهجة وجوه المدن يوم ينزاح او ينفق حاكمها وخصوصا في عصرنا الحاضر اذ عادة ما تتضارب مطامح الحكام مع مطالب المحكومين مما يجعل مظاهر العداء والاختلاف تحل سريعا مكان مظاهر الاعجاب او السكوت التي تتبخر باسرع من الزئبق يوم يقدم ذلك الحاكم مصلحته على مصلحة المحكومين , لكن ان تنشأ بين مدينة وحاكم علاقة حب تصل الى حد العشق والذوبان فهذا امر نادر الحدوث ان لم يكن مستحيلا ولم نرى هذا الحب الجارف بين مدينة وحاكم الا بين ( الثورة ) والزعيم عبد الكريم قاسم .. لقد وقع الزعيم اثناء فترة حكمه على شهادة وفاة لكثير من مدن الصفيح الكبيرة مثل الشاكرية والعاصمة والمجزرة والنزيزة وجمع اهلها بمدينة واحدة اطلق عليها اسم ( الثورة ) تيمنا بثورة 14 تموز 1958 ووفر لاهل المدينة الجديدة كل مستلزمات تشييد بيوت جديدة لايدخل الصفيح وحصران القصب ( البواري ) في مكوناتها واصبحت ( المدينة ) هم الزعيم الاول رغم كثرة مشاغله فهو ان لم يزورها في الصباح سيكون فيها ظهر والا فموعدها معه ليلا وكان يفرح يوم يرى البيوت ترتفع والعقبات تذلل والشوارع تقص وتبلط ويقضي الكثير من وقته بمحادثات ونقاشات مع اهلها وهو فرح كأحدهم واحب اهلها بصدق فاخلصوا له واحتفظوا بكل اثر له وكأنهم يعلمون ان ايامه لن تطول فكانت ( الزايره حذافه ) تحتفظ بصحون الشاي التي تحمل صورته في العدة ( الصندقجه ) ولاتظهرها الا عندما تشتاق لرؤية الزعيم او عند زيارة عزيز ولا تصب الشاي على وجه الزعيم مهما كانت اهمية الزائر او مكانته وكانت صوره تمتلأ بها الامكنة المحترمة في البيوت وهو حديث المجالس سواءا كانت مفرحة او حزينة وعندما قام بعثيو شباط وعبد السلام عارف بانقلابهم الاسود خرجت الثورة عن بكرة ابيها متسلحة بالسعف وبقايا اسلحة ملكية وعثمانية قاصدة الدفاع عن الزعيم بارواحها وليس بنوع السلاح الذي تحمل ولكن المقادير كانت اقوى منهم واثر الزعيم عدم القتال وازهاق ارواح بريئة والحاق الدمار بالبلد واثر الانقلابيون التخلص منه سريعا فكانت المأساة وتحوله الى ذكرى لاتمحيها السنين ولايستطيع حاكم مهما اوتي من امكانات احتلال مكان الزعيم في قلوب اهل المدينة وتحول الى سر للبقاء والحياة واسكنوه القمر وتنقلوا به بين الدول ورغم ان الانقلابيون ادرجوا اسمه ميتا في السجلات الرسمية الا انهم لم يستطيعوا اخراجه من قلوب محبيه في مدينته وبقوا مصرين على الحب والوفاء رغم رحيل اغلب الذين عاصروه واورثوا حبه لابنائهم وكأن هذا الحب امانة او شيء مقدس وهذا الحب وان كان في العهود التي تلت عهده مخفيا نوعا ما او غير مجاهر به الا انه كان معلوما لدى الحاكم . والمدينة التي عشق اهلها زعيمهم لم تظهر وفاء بما يكفي تجاه الزعيم بعد رحيل الانظمة الديكتاتورية خصوصا وان من كانوا اطفالا مر بهم موكب الزعيم وترجل لملاطفتهم وهم يلعبون ( الدعبل ) في شوارع المدينة الجديدة او من ولدوا بعد زمنه وحملهم اهلهم اسمه اصبحوا اليوم هم من يقود المدينة لكن وفائهم لم يظهر ولو بتمثال على مدخل المدينة للزعيم او تسمية شارع رئيسي فيها باسمه ومن الغريب انهم في غمرة انشغالهم بتغيير اسماء المدارس والمرفقات العامة التي وضع اسمائها النظام البائد نسوا ان يطلقوا اسم الزعيم حتى على مدرسة ابتدائية في زاوية من زوايا المدينة المنسية في وقت احتفت كثير من المدن بنصب لاشخاص لم يكن بينهم وبينها مثل حب اهل الثورة لزعيمها الراحل عبد الكريم قاسم خصوصا وان الظرف مساعد لاقامة اكثر من عمل يشير للعلاقة الحميمة بينه وبين المدينة التي احبها واحبته حد العشق .
مقالات اخرى للكاتب