نقلب المواجع في ذكرياتنا الحزينة التي اكتشفنا متأخرا كم كانت قاسية في ابعادها رغم التطبيل و التزمير للتحولات الثورية المفتعلة، فانقلاب 14تموز 1958 كان بداية الخراب المفتوح في العراق، و سلسلة الهزائم و الفشل المتراكم بعد " ترييف " الدولة و سرقة معالمها الدستورية نحو عبودية الأفراد و تسلط منهج " الجهل المزمن" في العلاقات الدولية، ليتحول العراق بعد النهاية المؤلمة لعهد النضوج السياسي و الدستوري في العهد الملكي الماسوف جدا على شبابه ، نقول ان العراق تحول من الانفتاح الى الانغلاق و من التأثير الى التبعية و الشيخوخة المبكرة!!.
لم يكن 14 تموز 1958 يوما مشمسا ولا مناسبة مشرقة في تاريخ العراق بل بداية مرحلة سوداوية تستنسخ نفسها بمراحل متباعدة في التيه الاداري الصحيح متلازمة بالفشل و سوء التقدير و تخريب اقتصاد البلاد، فالقضية لا ترتبط بنزاهة الزعيم عبد الكريم قاسم بل في جهله السياسي وانعدام " كاريزما القيادة" فالفرق كبير بين البساطة الريفية و فنون قيادة دولة اسمها العراق، لذلك اضم صوتي الى الداعين الى الغاء الاحتفال بأخطر مراحل نهب السيادة العراقية، التي حولت الشراكة الى تسلط شخصي و العلاقات الدولية الى تناحر على النياشين وتأمر على الوطنية.
لم يمر على تاريخ العراق الحديث تداول سلمي للسلطة مثلما حدث قبل نكبة تموز قاسم، ولم يكن هناك من مشروع عراقي انضج من حقبة الملكية، التي قال لي احد العارفين بالموروث العسكري ان كل المشاريع الاستراتيجية التي شهدها العراق في سبعينيات القرن الماضي كانت مقرة في العهد الملكي بانتظار خيرات النفط، التي تحولت من البناء الى التدمير و الخراب و بيع الوطن بالتقسيط المريح لتكون ايران " حامي الحمى" مثلما يحدث بعد 60 سنة على جريمة هدم سور الوطن العالي عام 1958.
ش
كم مؤلم قدرة الأنظمة " الثورية " على قهر شعوبها بكل أنواع الأسلحة، التي قيل انها لحفظ الأمن القومي وسيادة الأوطان، فجاءت الحقائق بغير ذلك، انها مخصصة بالأساس لمحاربة أبناء الوطن لأنهم الأعداء عندما يطالبون بالحرية والكرامة من حكوماتهم " الثورية جدا" ، أو عندما يقرر الشعب رفض نزيف سياط الجهل والتخلف والمحسوبية ، ويعلن رفضه الانصياع لارادة التزوير والغش والاختباء "الحرباوي"، مقابل رقاب تطول وتقصر حسب الضغط الأجنبي، ومعها هذا يتحفونا بمفردات النضال القومي لتخدير المتبقي من عقول شعوب المنطقة!!
نحن في العراق جربنا كل المستحيلات " الثورية" وخرجنا منها بكوارث انسانية على مختلف الصعد، وما يجري من تقطيع لأوصال الوطن و أخوة شعبه شاهد حي على نتائج القراءات العبثية لبناء دولة المؤسسات، فكم تعلقنا بنزاهة ال" 360فلس" التي كانت بحوزة الزعيم قاسم يوم التحقيق معه في مبنى الاذاعة و التفزيون في شباط عام 1963، والتي تحولت الى نهب منظم للثروات و موارد الدولة و حريات المواطنين، لأن البناء لم يحترم سياقات التخطيط و التنفيذ فانتقلنا من الحكمة و العقلانية الى فردية القرار و خصومة الشعب، فمفردات مثل " انا الزعيم و أنني والقائد الأوحد و الزعيم التاريخي" هي في حقيقة الأمر تغطية على الفشل و الوعاء المناسب لمزاج التسلط و الديكتاتورية الشخصية و العائلية التي تحولت الى مؤسسة حكم فاشلةبكل المقاييس لأن مدارك المستشارين متوافقة على نصف الحقيقة، او ربما لأنها أصلا تعمل بنصف قطر الدماغ و لا تكتمل الا بأوامر القائد" الغائب الحاضر"، وبما يتقاطع مع أبسط مقومات الحكمة لذلك يتواصل تخبط الحكم في العراق باشكال مختلفة، الى درجة تحولت بموجبها وحدة الوطن الى ترف سياسي و السيادة الى وهم تاريخي، ما يضع العراق على مفترق طرق مظلمة النهايات، لأن السياسيين
يتوافقون على المناصب حتى لو كان ثمنها هدم البيت من القواعد، وما يجري في دهاليز النواب و الحكومة و علاقات "نصف النعاس"، شاهد على التحديات، فالعبرة ليست في تغيير الوجوه بل بكيفية تعديل منهج الحكم بلا عدائية مفترضة أو صداقة مفروضة بقوة الملفات المخابراتية.
و من هنا فان العراق لن ينهض بمشاريع القتل و التخريب و النهب بل من خلال مؤسسة حكم عاقة تستوعب حركة المجتمع و تكويناته و تشعب نسيجه الاجتماعي غير المتطرف، و لأن الجميع غارق في الهزيمة و الخوف و الفساد فقد يكون من المناسب الأعتبار بتجربة تشكيل أول حكومة عراقية بعد الاحتلال البريطاني لتكون طريقا للتخلص ايضا من عاهات الاحتلال الأمريكي، فنحن في نفس المكان و كان حركة الكون مرت بعيدا عنا..
مقالات اخرى للكاتب