بناء المدن الجميلة المعبرة عن القوة والسلطة السياسية المتعاظمة , كانت تشغل الخلفاء في الدولة العباسية , خصوصا وأن الأمويين قد تواصلوا في الأندلس , وبنوا مدنا ذات عمران متميز ومؤثر في الحياة الإنسانية.
ومن المدن العظيمة التي بناها العرب في الأندلس غرناطة وقرطبة وصقلية وروانا وأشبيلية وغيرها.
وكان الخلفاء العباسيون في غضب وتنافس مع ما أقامه عبد الرحمن الداخل , والذي سماه الخليفة أبو جعفر المنصور بصقر قريش , وكان يفخر به وبما أنجزه , فلم يعمد على مطاردته أو محاربته , لأنه كان مشغولا بتثبيت أركان الدولة العباسية الناشئة.
ولهذا بنى مدينة بغداد وأرادها أن تكون حاضرة عمرانية وثقافية وسياسية لا تضاهى , وكان التنافس شديدا ما بين الأندلس وبغداد. وكانت فكرة بناء مدينة جميلة ذات قيمة عمرانية تتردد في مخيلة هارون الرشيد الذي همّ ببناء مدينة سامراء , لكنه أرجأ ذلك لأسباب وأحداث كان عليه أن يخوض غمارها.
وكان إبنه المعتصم قويا وقائدا عسكريا فذا , ومندفعا نحو إتخاذ القرارات وتحقيق الأهداف التي يراها , وقد أحيا فكرة مدينة سامراء , وقرر الشروع بالبناء , وقد يكون من أهم أسباب بنائها أنه أراد أن يبني مدينة أجمل من مدن الأندلس التي شاع ذكرها ودورها وقوتها.
لكن القصة المعروفة انه أرادها معسكرا لجيشه من الأتراك الذين ضاق بهم أهالي بغداد.
والمعتصم كان متوثبا ومتأهبا لغزو الأندلس وإمتلاكها , لكن وفاته أحالت دون ذلك الهدف الذي أصبح ناضجا في قرارة نفسه. ويبدو أنه كان غاضبا على وجود الدولة الأموية في الأندلس , وفي رأيه أنها لم تسقط وبقيت تنافس وتوازي دولة بني العباس.
وربما تكون مدينة سامراء التي بناها تعبّر عن إرادة تنافسية عمرانية حضارية , ويبدو أن الذي أسماها "سر من رأى" هو المعتصم. أي أنه أرادها مدينة تسر الناظرين إليها , وتتفوق على مدن الأندلس الجميلة العمران والذائعة الصيت.
ومضى على هديه إبنه الواثق وكذلك المتوكل في تأكيد القيمة الجمالية للمدينة , حتى فاق جمال عمرانها وهندستها جميع مدن الأرض آنذاك , فكانت سامراء جوهرة عمرانية وجنة سماوية متصورة ومنجزة في الأرض.
وفي سامراء قصور كقصور قرطبة وغرناطة , وفيها الجامع الكبير المتميز العمران بمأذنته التي أحدثت ثورة في العمارة العربية الإسلامية.
وما بين قصور قرطبة وغرناطة وقصور سامراء , هناك مقاربات وإبتكارات وتسابق في الجمال والأبهة ودهشة البنيان.
وما بقي في قرطبة برغم الزلازل المتكررة , لا زال يشير إلى ذلك الجمال العمراني العربي الإسلامي , وما بقي في سامراء يدل عليه أيضا , لكن قصور سامراء لم تتعرض للزلازل وإنما خربها البشر.
ففي الأندلس حافظ أهلها على تلك التحف العمرانية الرائعة.
وما علينا إلا أن نحافظ ونحرص على ما تبقى من آثار سامراء , ونصونها ونهتم بها ونتباهى بدور المدينة التاريخية الرائدة.
مقالات اخرى للكاتب