كنت تلميذا في مدرسة سامراء الإبتدائية الأولى , وكان معلم اللغة الإنكليزية , رجل مليح الوجه قصير القامة , متوسط البدانة , وذو نطق سليم للغة الضاد , وكان درس اللغة الإنكليزية محببا لنفوسنا, إذ حوله إلى إيقاعات شعرية مؤثرة وسهلة الحفظ والتعلم.
وكم تعلمنا أناشيد قصيرة باللغة الإنكليزية , كنا ننشدها في بداية درسه.
وكان من المهتمين بتفوقي باللغة , ويتفاعل معي بأسلوب تعليمي باهر , ومضى في طريقة تفاعله وتشجيعه لي , سواء بما أقدمه باللغة العربية أو الإنكليزية.
وفي ذلك العمر , لم أكن أعي ما أريد , لكنني أكتب في درس الإنشاء أو الإملاء أو التعبير , وكذلك أكتب باللغة الإنكليزية , وكان يبدي سرورا بكتاباتي , ويجعلني أقرؤها أمام التلاميذ.
وما كنت أعرف بأنه شاعر مفوه , لكنه غرز في نفسي محبة الشعر , بطريقة غير مباشرة , وبتمارين لغوية أخذت أستعيدها بعد أن توالت العقود , واكتشفت بأنه شاعر مُجيد , وله قصائده الجيدة البليغة.
أدركت ذلك بعد أن طُلِبَ مني تقديم محاضرة عن مدينة سامراء والشعر , فرحت أبحث عن الشعراء المعاصرين في المدينة , أو الذين اسهموا بالشعر في القرن العشرين , أو في النصف الثاني منه.
وتوقفت أمام عدد من الشعراء , إبتداء بنعمان ماهر الكنعاني , وانتهاء بالمعلم أحمد حمودي , معلم اللغة الإنكليزية , الذي قدم لي رعايته الخاصة وتوجيهاته المتميزة , وما سمعت منه يوما , يقول بأنه شاعر أو يكتب شعرا!
وتساءلت عن مدينة غنية بالشعراء والعلماء والكتاب والمفكرين , وما وعيت يوما أن حصل فيها مؤتمر , أو جلسة لقراءة شعرية أو حلقة أدبية أو فكرية, إلا في ثانوية سامراء , حيث كان عدد من الطلبة يقرؤن قصائد في مناسبات وطنية.
ونحن تلاميذ في الإبتدائية , ومعلمنا شاعر موهوب ومرموق , ولا نعرفه , ولم نحتفل يوما بقراءات شعرية له , ولم يقدمه لنا أحد , على أنه شاعر , أو أديب!
وفي ذلك سلوك معوق للتواصل الحضاري والمعرفي ما بين الأجيال , فمن حق التلميذ أن يعرف مواهب معلمه , وما يقدمه من إبداعات , لأن ذلك سيساهم في رسم خارطة مستقبله , وتنمية قدراته ومواهبه.
فلو كان معلمنا يتفاعل معنا على أنه شاعر وأديب , لأثر في توجهاتنا الفكرية والثقافية , ولكنا غير ما كنا عليه اليوم , ولقدمنا الكثير من الإبداع في وقت مبكر.
وفي هذا خلل واضح , فالأجيال لا تتواصل ولا تتلاقح , ولا تتفاعل لبناء مسيرة الصيرورة الوطنية والحضارية المعاصرة.
فما زارنا يوما في المدرسة أحد شعراء سامراء المعروفين , وإنما أمضينا الأيام في حالة تعتيم وتجهيل بقدرات أبناء المدينة , وهذا ينطبق على معظم المدن العراقية الأخرى.
إن الأجيال لا يمكنها أن تتواصل إذا تحققت آلية الإنقطاع وعدم التفاعل , وتبادل المعارف ورعاية المواهب والبراعم الواعدة , بدلا من تركها حائرة تتخبط في متاهات أيامها , حتى تكتشف نفسها بعد مسيرة درب طويلة ومضنية.
هذه حقيقة تربوية , وضرورة معرفية , تحتاجها الأجيال لكي ترتقي إلى ما فيها من القدرات والطاقات.
فهل تصدقون أنني عرفت بأن معلمي في الإبتدائية كان شاعرا بليغا وأديبا مرموقا , ولكن بعد عقود وعقود!!
إنها أوج معضلتنا الحضارية , التي تتلخص في تجهيلنا بذاتنا وموضوعنا وتأريخنا ولغتنا وديننا , وكل ما يمت بصلة لوجودنا العزيز!!
ومن شعره:
فالشر أن تبقى النفوس على الطوى
تجتر من ماضي العصور وترقد
وتظل تستاف المنى وبفكرها
تشقى , ويفخر جرحها المتجدد
والخطب ينزع قوسه ويرشها
حزقاء تضلل في الفؤاد وتغمد
وله أيضا:
ودعت في طيش الغرام شبابي
وأسأت ظني في هوى الأتراب
ووقفت في رشد الحقيقة راثيا
صرعى الوصال وفرقة الأحباب
ووهبت للعذال حرقة زمرةٍ
في ضرمها بلوى وحسن مآب
قد كنت مغرور الفؤاد تهزه
نجوى العيون بساحر الألقاب
تحية لذلك المعلم الأديب الأصيل , صاحب الخُلق السامي النبيل , الذي ربما كان يتمثل في سلوكه قول أحمد شوقي:
"قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا"
ترى لماذا لم يقرأ على مسامعنا شيئا من أشعاره؟!!