منذ عهد الصبا , كنت أسمع بإسم "جاك عبود" , والبعض يسميه "جاكي عبود"
ويبدو إنه كان أشهر طبيب عراقي للأمراض العقلية والنفسية , على مدى عقود من القرن العشرين , حتى مغادرته البلاد.
وفي أيام الصبا كنا نمزح فنقول : جاك , جاك (أي جاءك) , ونردفها بكلمة "عبود".
وفي مدينتنا , كان الناس يقولون عن الشخص الذي يرون في عقله لوثة "ينرادله يشوف جاكي عبود" , أو " دِواه جاكي عبود".
وكنت أحسب هذا الإسم مأخوذا من الأساطير , وعندما أسأل جدتي عنه , كانت تجيبني , " يمه إشجابك على جاكي عبود"!
ودارت الأيام , والإسم يتردد بين الناس , وعرفت بأنه طبيب , لكنه غادر العراق قبل أن أكون طبيبا.
وأخذت أتقصى عنه , وأسأل , وأتتبع تأريخه , من الذين عملوا معه , ومعظمهم ذكروا لي , بأنه كان رفيع الخلق , طيب النفس , رحيم القلب , يساعد مرضاه , ويقدم لهم الخدمات اللازمة لإعادتهم إلى مسيرة الحياة الأفضل.
وقد أسهم الرجل في إرساء دعائم الخدمات النفسية في البلاد.
وعمل أستاذا للطب النفسي في كلية طب بغداد , وممارسا لإختصاصه , وكانت له تأثيراته وبصماته على مسيرة علاج الأمراض النفسية والعقلية , إبتداءَ من المستشفى الملكي وردهة الأمراض العقلية , وحتى مستشفى الشماعية (الرشاد حاليا).
وكانت عنده مستشفى خاص بإسمه , تقع إلى الجنوب من ساحة الأندلس , بإتجاه معسكر الرشيد , على حد ذكر أحد الأساتذة الذين عملوا معه , والتي تم إغلاقها في السبعينيات من القرن الماضي.
وعبود إسم عراقي شائع , وأصله من عبد , وأحيانا يقولون عبودي.
وقد أرسل لي زميل , رسالة إليكترونية يحدثني فيها عن الدكتور جاك عبود رحمه الله.
وهذه مقتطفات منها: "الدكتور جاك عبود شابي (1908-1981) من مواليد البصرة, إنتقلت عائلته إلى بغداد , وأنهى دراسته الثانوية فيها , وعندما أفتتحت الكلية الطبية العراقية أول مرة عام 1927 كان من ضمن طلبتها , وتخرج متفوقا في دورتها الأولى عام 1932 , وأرسلته الحكومة على نفقتها لدراسة الطب النفسي في لندن , وبعد عودته تم تعيينه في المستشفى الملكي , ثم أستاذا مساعدا في الكلية الطبية. وقد تميز بعلميته وإكتشافه طرق وأساليب جديدة للعلاج , وهو أول من أدخل العلاج بالصدمات الكهربائية , وأول من أنشأ مستشفى خاصا له".
ويذكر أنه توفى في لندن في 18 تموز 1981.
ترى كم من الأعلام في العراق قد ذهبوا دون أن نرتكز عليهم وننطلق منهم نحو المستقبل.
فهذا الرجل قد تحدى عصره واخترق المصدات والمعوقات , وأسس لإنطلاقة إنسانية مؤثرة في الحياة , ولصدق إندفاعه ومثابرته وجده وإجتهاده , وأصالة إنجازاته , يستحق منا التقدير والإمتنان والذكر الطيب.
وأظنه أول طبيب عراقي متخصص بالأمراض العقلية والنفسية , من الدفعة الأولى لكلية الطب العراقية.
وللطب النفسي في العراق رواد أفذاذ, إبتدأت بهم مسيرة التفاعل العلمي المعاصرة منذ وقت مبكر, لكن الحالة لم تتقدم , ولم تتواكب , وأصبح الحال أقل كثيرا من القدرات والطاقات والطموحات , ودون تلبية الحاجات والمساهمة في مآساة جراح النفوس وعاهات العقول.
وأملنا أن نتعلم آليات تفاعل الأجيال وإسترشادها ببعضها , لكي تنطلق نحو المستقبل , كالبنيان المرصوص بلبنات أفكارها وإنجازاتها النافعة المتنامية!!