العراق تايمز ــ كتب / السيد عصام احميدان الادريسي:
الحاكمية وموقف مدرسة أهل البيت ع
نصوص كثيرة في الإسلام أكدت على حاكمية الله عزّ وجلّ على البشر، ونتج عن هذا المبدأ الرّاسخ تعدّد في القراءات والتأويلات لمفهوم الحاكمية، أفرز في نهاية المطاف مشهداً كلاميًّا متنوعاً، انطلق مع الخوارج الذين قدّموا مفهوم (الحاكمية) كقاعدة مركزية لتأسيسهم الكلامي والسياسي أيضاً، فوسّعوا مفهومها بحيث شكّلت الإطار المرجعي السياسي والتنظيمي، فتمّ بذلك الإجهاز على الفكر السياسي الإسلامي وضرب حلقة هامة من حلقات الوعي الإنساني القاضي بضرورة وجود السلطة بوصفها حاجة اجتماعية أوّلاً، وحاجة حضارية ثانياً تمليها طبيعة الكينونة الرّساليّة.
لذلك وجّه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) نقده لهذه الفكرة الخطيرة، المتأسّسة على قاعدة دينية تملك الحقانية في مستوى المبدأ لكنّها تفتقد إلى القراءة الصّحيحة والتأويل المناسب. حيث قال (عليه السلام): «..لا حكم إلاّ لله، كلمة حقّ أريد بها باطل، لا حكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون (لا إمرة) وإنّه لا بدّ للنّاس من أمير برّ أو فاجر..».
فالحاكميّة الإلهية في إحدى القراءات الدينية التاريخية كما بينّا كانت تمثّل فكرة معيقة لحركة النهوض الحضاري وتطور الوعي الإنساني، غير أنّ الإمام علي (عليه السلام) قدّم للعالم رؤية حضارية للإسلام ولمفهوم الحاكمية الإلهية، فحكم الله -بحسب الرؤية العلوية- ثابت بلا منازع، وحكم البشر ضرورة تقتضيها طبيعة الأشياء وضرورات حفظ النظام العام في الاجتماع الإنساني. لكن كيف أمكن الجمع بين حكم الله وحكم البشر، مع اتصاف حكم كل منهما بأوصاف معيارية مختلفة، فحكم الله لا يتخلّف وسلطانه قاهر على من سواه، ومتصف بالموضوعية والحقانية، وحكم البشر غير متصف بذلك؟!
من هنا كانت البداية لإشكاليات أخر انتقلت من عالم الفقه السياسي كما هو الحال مع الفكرة الخارجية عن الحاكمية الإلهيّة إلى عالم عقيدة والكلام، فتم الحديث عن مفهوم (السلطان الإلهي) ومدى تأثيره في الفعل البشري وهيمنته عليه، فظهر اتجاهان حاول أحدهما صيانة (السلطان الإلهي) وحمايته قهره الإنساني أمام (سلطة البشر) وإرادتهم الحرّة، فانتهى إلى القول بالجبر الإلهي وهو الخضوع والهيمنة المطلقة للفاعل الإلهي على الفاعل الإنساني في كل مسارات فعله وحركته. وحاول اتجاه آخر بعدما رأى أن القول بالجبر من شأنه أن يقود إلى تحميل السّلطان الإلهي أعباء الفعل الإنساني بالجملة وحمل أوزاره السيّئة، ومن شأن ذلك كلّه التعريض بمبدأ هام وجوهري في العقيدة الإسلامية وهو مفهوم (العدل الإلهي) ودونه لا يمكن تصويب العقاب الإلهي. فانتهى إلى القول بالتفويض وحرية الفعل الإنساني أمام الفاعل الإلهي، وهو ما اعتبره الاتجاه الآخر ضرباً لقاعدة (الحاكمية الإلهية).
لاشكّ أنّ منطلقات كلا الاتّجاهين كانت حسنة تجاه الفاعل الإلهي، حيث حَرِص الطرفان على حماية السلطان الإلهي والعدل الإلهي، لكن النتيجة كانت غير ذلك تماماً حيث انتهى كلّ منهما إلى نفي إحدى هاتين الركيزتين متمسّكا بالأخرى، فتمّ خدش مفهوم التوحيد على نحو وسم فيه الفاعل الإلهي في الاتجاه الأول بعدم العدل في أفعاله وعدم صحة ما يصدر منه من عقاب مادام المحرك نحو الفعل الإنساني كان إلهيًّا محضاً، وأيضاً على نحو انتهى بوسم الفاعل الإلهي في الاتجاه الثاني بالاستقالة في مقابل استقلال الفعل الإنساني، وغياب التوجيه والسلطان الإلهي عن الفعل الإنساني.
في هذا السياق الكلامي الجدلي الذي عاشه الفكر الإسلامي التاريخي، انبرى الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ليميط اللثام عن جوهرة التوحيد، التي كادت أن تطمس بسبب قصور في الرؤى وعجز في القراءات، فأطلق قولته الشهيرة: «لا جبر ولا تفويض، لكن أمر بين أمرين»، وهو ما سمح بتأسيس خط وسطي يحمي السّلطان الإلهي بالقدر الذي لا يغيّبه عن ساحة الفعل الإنساني، ويحمي السلطان البشري بالقدر الذي لا يلغي فاعليته في التحريك ويصحّ معه الثواب والعقاب من المولى.
بالطبع تفصيل هذه النظرية المسماة «فلسفة أمر بين أمرين» جاء لاحقاً على يد تلاميذ هذا العَلَم الجليل وبحر علوم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث انطلق التّأسيس لمفهومين من الإرادة والسلطان الإلهي بعد أن كانت البحوث الكلامية الأولى تتحدّث عن الحاكمية الإلهية بشكل عام ومجمل، فبدأ الحديث عن نوعين من الإرادة الإلهية:
إرادة تشريعية: وصفت بكونها قابلة للتخلف عن مرادها من جانب الفعل الإنساني الذي أعطي من قبل المولى عزّ وجلّ الحرية والاختيار في الالتزام بذلك المراد وعدمه.
إرادة تكوينية: وصفت بكونها غير قابلة للتخلف عن مرادها من جانب الفعل الإنساني، وإرادة الله في ذلك غالبة وقاهرة وهي من قبيل قوله تعالى للشيء: كن، فيكون.
إنّ هذا النوع من التمييز بين مستويين من الإرادة الإلهية حدّد مساراً جديداً للبحث في مفهوم (الحاكمية) حيث أصبح للفعل الإنساني الحر مساحة كبيرة أمام الإرادة والسلطان الإلهي التشريعي، وذلك في مستوى عدم قهرية الامتثال للأوامر المولوية ولا الردع عن النواهي المولوية كذلك، غير أنّ ذلك لا يلغي ثبوت الأمر والنهي في ذمة المكلّف، وكونه مراد الله تعالى الذي ينبغي تحقيقه.
ولعلّ ذلك هو منطلق الآية الكريمة: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾، إذ الآية قطعاً ليست في مقام تأسيس الجواز لحالة الكفر ورهنها بمشيئة البشر، بل كانت بصدد تصوير موقف الفعل الإنساني أمام السلطان الإلهي التشريعي، إذ الناس غير مقهورين أمام تلك الإرادة، ومن هنا صح العقاب وجاز الثواب وحُمي في المحصّلة (العدل الإلهي) من التجاوز الذي مارسه (المجبّرة).
وفي النوع الثاني من الإرادة وهي (الإرادة التكوينية) كان المراد لازم التحقق، والسّلطان الإلهي ناجزاً فعليًّا، ولا يتخلّف في نتيجته عن مراده تعالى، وهو من قبيل قوله للشيء: كن، فيكون. فتمّ بذلك حماية (السلطان الإلهي) من التجاوز الذي مارسه (المفوّضة).
ومن السيّاسة إلى الكلام، ومن الكلام تحوّل البحث في الإرادة والحاكميّة الإلهيّة إلى بحث في علم أصول الفقه، وبدأ الحديث عن حدود التدخّل الإلهي في التّشريع ومدى إحراز الفاعل البشري مساحة في حركة التشريع الإسلامي، فظهرت أقوال وأطروحات تنطلق من فكرة (الإسلام منهج الحياة) و (دستورنا القرآن) للحديث عن تغطية شاملة من قبل الشريعة والوحي لكلّ مناحي الحياة ومستلزمات الحركة في الواقع. وبدأ الكلام عن كون النص الديني يجيب عن كلّ نازلة وواقعة ويؤطّرها ضمن حكم شرعي واقعي، ولازال يتناهى إلى علمنا أن هناك من يفتي الناس من منطلق اجتهادي معنوناً تلك الفتاوى بعنوان (أنت تسأل والإسلام يجيب) فعجبنا لوحدة الحال تلك بين المفتي وحكم الله الواقعي، لكننا لما راجعنا كتب أصول الفقه ومذاهب المسلمين في ذلك، فهمنا هذا الموقف كخط فكري طرح في سياق تاريخي ولا يزال يحرز في الواقع مواقع متقدمة على صعيد جمهور المسلمين.
من هنا ، فإنه يمكن القول أن مدرسة أهل البيت ع قدمت الإسلام وفق منهجي وسطي متكامل ، استوعب كلا المفهومين : الحاكمية الإلهية والخلافة العامة للنوع الإنساني ، وهو ما يرسم حدودا للفقيه والحاكم معا ، بحيث لا ينبغي للحاكم والفقيه أن يتجاوزا حاكمية الله كما لا ينبغي لهما مصادرة حق الناس في تدبير أمورهم بنفسهم لأن ذلك من مقتضيات حق الخلافة للنوع الإنساني .
( يتبع )
* السيد عصام احميدان الادريسي الحسني
- معتمد ووكيل سابق للمرجع الرسالي السيد محمد حسين فضل الله (رض) بالمغرب .
- حاصل على بكالوريوس القانون العام شعبة العلاقات الدولية من كلية الحقوق بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، المغرب .
- بصدد إعداد رسالة الماجستير في القانون والعلوم الإدارية للتنمية بكلية الحقوق بطنجة ، جامعة عبد الملك السعدي، المغرب .
ـ عضو هيئة أمناء مركز المهدي للدراسات والنشر، وممثله في اوربا وافريقيا.
ـ عضو مؤسس للخط الرسالي بالمغرب.
- كاتب للعديد من المقالات في صحف مغربية وعربية .