إن من طبيعة الشعوب والمجتمعات أنها تميل بالفطرة إلى الاستقرار في المعاش وتنشد التطور في الحضارة ، وكل ما يقع خارج هذه المعادلة الجوهرية والمؤسسة ، التي تعتبر مؤشرا"على صحة كيانها ومتانة نسيجها ، يعد بمثابة إخلالا"لتوازنها واهتزازا"لقيمها وتفكيكا"لمدماكها . ولعل الصراعات الأهلية والحروب الخارجية هي من أكثر العوامل إضرارا"وأشدها فتكا"لتلك المؤشرات والمعطيات . وكما في جميع الظواهر الشاذة والحالات الاستثنائية التي تنطوي على مظاهر العنف في السلوكيات والتطرف في الذهنيات والانحراف في الأخلاقيات ، فان المجتمعات المعنية بها ستكون بالضرورة مسرحا"للكثير من التغييرات السلبية والتحولات الحادة ، التي لا بد من توقع حصولها ليس فقط على المستوى الفردي / الشخصي فحسب وإنما على الصعيد الجماعي / الاجتماعي أيضا". ولهذا نلاحظ شيوع ظواهر الفساد بكل أنواعه ، وانتشار مظاهر الجريمة بكل أنماطها ، وانثيال معطبات التحلل الأخلاقي بكل مستوياته . وإذا كان رصد وتشخيص مثل هذه الظواهر في المجتمعات التي خاضت غمار حرب واحدة يشكل حالة غريبة وشاذة بالمقاييس الاجتماعية والإنسانية ، فما بالك حين يكون المجتمع – هنا نتحدث عن المجتمع العراقي - قد تعرض لأكثر من حرب داخلية وخارجية خلال جيل واحد فقط ؟؟!! . الحقيقة لسنا بصدد استعراض عيوب ومثالب ما أفرزته تلك الحروب على طبيعة الشخصية العراقية ، وما تمخض عنها وترتب عليها من أهوال مباشرة وغير مباشرة يصعب تصديقها ، وضعت تلك الشخصية في مواقف وحالات لا تحسد عليها بتاتا"، سيما وإنها تحتضن في كينونتها استعدادات سوسيولوجية وانثروبولوجية وسيكولوجية وتاريخية وثقافية ، تساعد إن لم تكن تشجع على ارتكاب الأفعال المشينة ، وتسوغ إن لم تكن تبرر الممارسات المرذولة . وهكذا ففي الوقت الذي يغاث فيه الناس من شدة المعاناة الناجمة عن تلك الصراعات التي تكاد أن تكون يومية ، تنشط ثلة من عتاة المجرمين الذين باعوا ضمائرهم للشيطان وتنازلوا عن إنسانيتهم لطاغوت المال (تجار المصائب والحروب ومصاصي دماء الشعوب) ، لاستغلال مآسي المنكوبين واستثمار كوارث المطاردين ، من خلال تصيد الظروف الصعبة وتحين الأوضاع العصيبة ، التي تضطرهم إلى ترك منازلهم ومغادرة مدنهم وهجرة – وهذا أسوأ – أوطانهم ، لتعظيم مكاسبهم المنهوبة بفعل اضطرار مالكيها على الهروب من براثن الموت ، ومراكمة ثرواتهم المنتزعة بفعل احتياج أصحابها لمأوى آمن يقيهم من التشرد . وفي هذا السياق فقد جمعتني الصدفة مع سيدة عراقية – وما أكثرهن في مجتمع بات جلّ أفراده لا يمتهنون سوى أعمال القتل واللصوصية - رسمت مظاهر الفجيعة على محياها تقاطيع ألم لا يمحى ، وحفرت مخالب الرعب في وجدانها أخاديد عميقة لن تزول . حيث تبين أن عمليات القصف اليومي للحكومة العراقية ، فضلا"عن المداهمات المستمرة من قبل المسلحين ، أجبرت عائلتها والكثير من العوائل الأخرى على اتخاذ قرار مصيري غاية في الصعوبة ، تمثل بعرض بيوتهم والنفيس من ممتلكاتهم للبيع ، متأملين أن يجدوا ملاذا"بديلا"في مكان آخر . وهنا تقدم المرابون والسماسرة ليعرضوا خدماتهم المشروطة بدم الضحايا ، معربين عن رغبتهم البهيمية لاقتناص هذه الفرصة الثمينة والشروع بالمضاربة ، بعد أن استشعروا وهم الخبراء بهذه الأمور – ألم يكونوا شركاء القتلة وحلفاء اللصوص في المغانم والأسلاب ؟ - فقد الطرف المنكوب أية قدرة على المساومة والمناورة لضمان حقه من هذه الصفقات التي يعلم تماما"أنها تجري لغير صالحه وعلى حسابه . ومن المفارقات المضحكة والمحزنة في قصة هذه السيدة ، هي قيام أحد (تجار الموت) بشراء بيوت الزقاق كلها وبالجملة – تصوروا مرابي واحد يشتري بيوت الزقاق بكامله ، كما لو أنه يتبضع في سوق خضار !! - بعد أن عرض على أصحابها مبالغ لا تمثل إلاّ نصف أقيامها الفعلية ، الأمر الذي اضطرهم للبحث عن أماكن نائية تتوفر فيها منازل متواضعة يستطيعون شرائها والاحتماء بها . فهل هناك خسة أكثر من هذه الخسة التي تعامل بها هذا المرابي مع ظروف هؤلاء القوم ؟! . وهل هناك جريمة أبشع من هذه الجريمة ، التي ربما يتوهم هذا التاجر / المجرم أنه أبدى خلالها شهامة ومروءة يعجز غيره عن الإتيان بمثلها ، باعتبار انه (أسعفهم) من ورطة تركها للنهب والتخريب من قبل شذاذ الآفاق ؟! . الحقيقة إن هذه القصة / القضية حيرتني وأفزعتني في نفس الآن ليس فقط بتفاصيلها المؤلمة وأحداثها المأساوية ، إذ إن ربوع العراق تشهد نظيرها يوميا"المئات إن لم تكن الآلاف ، وإنما لمواقف هذه المخلوقات البشرية وأسباب جعلها تتصرف بهذه الوحشية المفرطة ؟! . لماذا تنقلب هذه الكائنات إلى مسوخ خرافية تقتات على بؤس الآخرين وتتغذى على مصائبهم ، بعد أن تتخلى عن أخلاقيتها وتتنصل من دينها وتتبرأ من إنسانيتها ؟! . والأنكى من ذلك إن هذه الوحوش (الآدمية) لم تأتي من وراء
الحدود أو من خارج البلاد ولا حتى من غير مدينتهم لتساوم أهلها على حلال مالهم وممتلكاتهم ، بل هي من نفس الحي وتعيش بين ظهراني ساكنيه ، ولربما تجمعها بأصحاب المحلة علاقات جيرة وصلات قرابية . بيد أنها لا تلبث أن تخلع رداء الحمل الوديع الذي تخدع به أقرانها عادة ، لتتحول فجأة إلى ذئاب شرسة لا تقيم وزنا"لا لصلة رحم ولا لعلاقة قرابة ولا لعشرة جيرة ولا لعرف اجتماعي ولا لوازع أخلاقي . إذ جعل الله على قلوبهم أكنّة وختم على سمعهم وأبصارهم ، بحيث لم يعدو يميزون بين الحلال والحرام ، بين الخير والشر ، بين الإنسانية والوحشية ، طالما إن الأمر يتعلق باستغلال فرص المصائب واهتبال مناسبات النوائب ، التي تدر عليهم (القناطير المقنطرة) من الأموال والعقارات والعيش \الرغيد ، بعد أن كانوا عاجزين عن شراء رغيف خبر يسترون به جوع غوائلهم ، أو شراء قنينة ماء يرون بها ظمأ أطفالهم !! . اتقوا الله أيها المرابين وتذكروا إن اليوم لكم وغدا"عليكم !! .
مقالات اخرى للكاتب